تعدّت خسارة صناعة الدواجن جراء وباء أنفلونزا الطيور في مصر كل ما عداها من أوبئة أصابت صناعة الدواجن في أي بلد من بلدان العالم منذ أن أُعلن عن أول إصابة في هونغ كونغ عام 1997 .
سوف أستعرض في هذه الدراسة ، وبشكل تاريخي ، الأحداث والأسباب والمعوقات التي أدت إلى هذه الفاجعة . ثم أنتقل إلى تبيان النتائج الاقتصادية وأعدّد الأخطاء التي ارتكبت . وأنتهي بالدروس والعبر حتى تكون مثلاً لدول أخرى كي تتفادى مثل هذه الكارثة.
ما قبل إصابة الأنفلونزا H5N1
منذ عام 2002 وكافة الدول شرقي البحر المتوسط والبحر الأحمر تعاني من أنفلونزا الطيور خفيف الضراوة H9N2 . لم تستطِع الحد من انتشاره ومن ضرره على إنتاجية الطيور البياضة أو الأمات ولا على نفوقها ونفوق دجاج التسمين إلاّ بعد أن اعتمدت على استخدام اللقاح المعطل H9N2 لكافة أنواع الطيور . وما زالت هذه الدول ماضية باستخدام هذا اللقاح وبشكل خاص للدجاج البيّاض والأمات والجدود .
خشية من أن ينتقل هذا الفيروس إلى مصر ، تقدمت بدراسة إلى مستشار وزير الزراعة الخاص بشؤون الدواجن في أوائل عام 2003 أحثّ الوزارة إلى التنبّه وأخذ الاحتياطات من أجل تدارك وصوله والإجراءات إن وصل ومنها إلزام نظام الأمن الحيوي على كافة المزارع وإلزام تسكين الدجاج الريفي بدلاً من تركه سائباً وتسجيل لقاح H9N2 توطئة لاستخدامه فور ظهور أي حالة .
من المؤسف أن الوزارة لم تبادر إلى أخذ أي إجراء بهذا الشأن . لكن من حسن الطالع أن هذا المرض لم ينتقل إلى مصر بسحر ساحر .
وفي سبتمبر 2005 وعلى أثر اقتراب إصابات H5N1 من الشرق الأوسط خاطبت السيد وزير الزراعة والسيد رئيس مجلس الوزراء أناشدهم اتّخاذ الخطوات التالية درءاً لانتقال المرض إلى مصر وتخفيفاً لضرره إذا ما انتقل :
منع صيد الطيور البرية منعاً كاملاً إلزام تسكين كل الطيور في الأرياف بما فيها الدجاج والبط والإوز والرومي والحمام منع تربية الطيور على أسطح المنازل في المدن منع بيع الطيور الحية في المدن توطئة لمنع بيعه في القرى في مرحلة لاحقة وضع خطة جهوزية كاملة لمواجهة المرض ومنها إعداد المختبرات بالعدة والخبرات ، تهيئة السلطات البيطرية لأخذ العينات ، وتحصين الطيور الريفية . تعميم إجراءات الأمن الحيوي على كافة المزارع التجارية وضع خطة طارئة متكاملة لمواجهة المرض ومنها تحديد سياسة الإعدام وسياسة التعويض وسياسة استخدام اللقاح . تسجيل اللقاحات H5 والسماح باستيراد مخزون استراتيجي منها لتكون جاهزة للاستخدام مع أول إصابة تظهر .
لم تمضِ على مناشدتي أيام إلاّ وسمعنا بحادثة أنفلونزا الطيور H5N1 في تركيا . كان لهذه الحادثة فعل السحر على المستهلكين المصريين وكأن أنفلونزا الطيور قد ضرب مصر فعلاً . لقد شعروا بالخطر يقترب منهم خاصةً وأن وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة غطّت الحدث تغطية مثيرة للهلع . وأصبحت أخبار حوادث أنفلونزا الطيور في كافة أنحاء العالم تذاع يومياً وتتصدر صفحات الصحف . والذي زاد الطين بلّة أن العديد من أطباء الإنسان والأطباء البيطريين أخذوا يتسابقون على شرح كيفية حدوث وباء للإنسان ويمعنون في تخويف الناس من الاقتراب ومن التعامل مع لحم الدجاج وبيض المائدة .
ظلت الأمور على هذه الحال أربعة أشهر ونصف نتج عنها الأضرار التالية:
انخفض استهلاك البيض والدواجن 70% انخفضت أسعار البيض والدجاج 50% اضطر المزارعون إلى تخفيف إنتاجهم عن طريق بيع الأمات والدجاج البيّاض قبل اكتمال فترة إنتاجها وعن طريق قلش هكذا طيور تأجيلاً لإنتاجها وعن طريق عدم إحلال قطعان جديدة منها بما في ذلك دجاج التسمين .
من المؤسف حقاً أن لا وزارة الزراعة ولا رئاسة مجلس الوزراء أبها للتوصيات التي طالبت بها ولا تحركا نتيجة انخفاض الاستهلاك وحلول كارثة اقتصادية لصناعة الدواجن .
ما بعد حدوث إصابة أنفلونزا الطيور H5N1 في مصر
فور إعلان الحكومة عن أربع إصابات في الدواجن في ثلاث محافظات ، ألّفت اللجنة القومية العليا لمواجهة أنفلونزا الطيور ( اللجنة القومية ) . كما كوّن وزير الزراعة لجنة مواجهة وباء أنفلونزا الطيور ( اللجنة الفنيّة ) مهمتها إعداد التوصيات ورفعها إليه لإصدار القرارات في بعضها أو رفع البعض الآخر إلى اللجنة القومية .
ركّزت اللجنة القومية على سياسة الانقضاض وليس سياسة الإنقاذ :
أقفلت كل منافذ بيع الدواجن الحية في كافة الجمهورية علماً بأن 80% من دجاج التسمين يباع حياً و 20% فقط يرى طريقه إلى المجازر . نتج عن هذا القرار أن انخفضت أسعار البيض ولحم الدجاج 50% . كما تم إعدام كل إنتاج الكتاكيت البيّاضة والتسمين لمدة ثلاثة أسابيع . واضطرت معامل التفريخ عدم تحضين بيض التفريخ لمدة ستة أسابيع إضافية .
اعتمدت سياسة إعدام كل الطيور المصابة وغير المصابة ضمن دائرة قطرها 2 كم من أي إصابة مهما كانت . والجدير ذكره أنه خلال يومين من الإعلان عن وجود المرض في مصر ، وصلت عدد الحالات إلى 18 حالة في ثلاث محافظات . وبالتالي تمت محاصرة 18 دائرة قطر الواحدة 2 كم في آنٍ واحد وأخذت السلطات البيطرية والصحية تعاونها فرق من القوات المسلّحة بالإعدام بطريقة غير إنسانية . تلت هذه عشرات الحالات يومياً الأمر الذي أحدث مجزرة حقيقية خلال أسبوع واحد .أمرت بإعدام كل الطيور المنزلية في المدن وخاصةً تلك المرباة فوق أسطح العمارات . لكن هذا الأمر لم ينفذ بدقة .
أمرت بتسكين كل الطيور الريفية من البط والإوز والرومي والحمام . لكن هذا الأمر لم ينفّذ إلاّ نادراً .
تأخرت اللجنة القومية في الإعلان عن التعويض لمدة أسبوعين . بعدها أعلنت عن التعويض لكافة الطيور التي يزيد عمرها عن ثلاثين يوماً بقيمة خمس جنيهات فقط للطير الواحد . مثّل هذا الرقم التعويضي : 40% من معدّل قيمة التسمين 25% من معدّل قيمة البيّاض 10% من معدّل قيمة الأمات 3% من معدّل قيمة الجدود
وبنتيجة هذه القيمة المتدنية ، والتي لم تكن تدفع فوراً ، لجأ المزارعون إلى نقل طيورهم السليمة والمصابة إلى مناطق خارج دائرة المكافحة . كما لجأ الفلاّحون إلى إخفاء طيورهم داخل منازلهم من طريق فرق الإعدام . غطّت وسائل الإعلام المجازر وخلقت موجة من الذعر لدى المواطنين فاقت كل ما سبقتها الأمر الذي أدّى إلى انخفاض متجدّد للاستهلاك .
أما اللجنة الفنية فقد تعثّرت كثيراً في قراراتها :
تأخرت في قرار السماح باستيراد لقاح H5 حصرت الاستيراد في لقاح H5N1 والذي لم يكن متوفراً إلاّ من شركة واحدة في الصين تمثلها شركة حكومية في مصر قاومت السماح باستخدام اللقاح لعدة أسابيع بالرغم من انتشار المرض كالنار عند الموافقة على استخدام اللقاح بعد مرور ثلاثة أسابيع على ظهور المرض حصرت استخدامه بالجدود وأمّات البيّاض فقط اضطرت للموافقة على استخدام اللقاح لأمّات التسمين والدجاج البيّاض عندما رأت أن 60% من الدجاج البيّاض و 20% من أمات التسمين قد نفق أو تم إعدامه بعد مرور شهر كامل على ظهور المرض رأت اللجنة نفسها مضطرة لتعميم استخدام اللقاح على كل أنواع وأعمار الدواجن . لكن جاء هذا القرار بعد نفاذ مخزون اللقاح من مصر كان يباع اللقاح من الشركة الحكومية بـ 74 دولار للألف جرعة لكن لعدد محدد من المزارعين . بينما وصل سعره في السوق السوداء إلى 95 دولار للألف جرعة ركزت اللجنة الفنية عملها على تحليل النتائج الأسبوعية للإعدامات والنفوق والحالات الإيجابية بعد مرور شهرين كاملين وعندما شعرت اللجنة باستحالة الاستمرار في سياسة المحاصرة والإعدام ضمن دوائر 2 كم اضطرت إلى التراجع عن هذه التوصية واستبدالها بتوصية لإعدام المزارع المصابة فقط 10) بعد مرور تسعة أسابيع على بدء الإصابة قررت اللجنة اعتماد التحصين لكل أنواع الدواجن الريفية وطلبت من الهيئة العامة للخدمات البيطرية بالقيام بهذه المهمة ولو متأخرة جداً . 11) رفضت اللجنة اقتراح إلزام العمر الواحد بالمزرعة الواحدة كوسيلة رئيسة في أنظمة الأمن الحيوي . 12) رفضت اللجنة اقتراح هدم أبراج الحمام في مصر بالرغم من صدور قرار تسكين الحمام وعدم تركه يسرح ويمرح لتصبح هذه الأبراج مرتعاً ومسكناً مناسباً لليمام . 13) لم تعتمد اللجنة متابعة المستويات المناعية لدى الطيور المحصنة لمعرفة كفاءة اللقاح الوحيد المستخدم لمدة عشرة أسابيع خاصةً وأن الإصابات ظلت تظهر حتى في القطعان المحصّنة بعد مدد مختلفة وصلت إلى ثمانية أسابيع .
النتائج الاقتصادية
النتائج الاقتصادية قبل الإصابة انخفض استهلاك البيض حوالي 50% وانخفض استهلاك لحم الدواجن حوالي 60% خلال الفترة من أكتوبر 2005 إلى فبراير 2006 أشار مركز المعلومات التابع لرئاسة مجلس الوزراء إلى أن خسارة صناعة الدواجن خلال الفترة أعلاه بلغت ثلاثة مليارات جنيه مصري
النتائج الاقتصادية ما بعد الإصابة انخفض استهلاك البيض حوالي 75% وانخفض استهلاك لحم الدواجن 85% خاصةً على أثر إقفال كل منافذ بيع الدواجن الحية . بلغت خسارة صناعة الدواجن خمسماية مليون جنيه مصري خلال فترة ثلاثة أشهر أصدرت الهيئة العامة للخدمات البيطرية تقارير أسبوعية عن كافة المديريات في المحافظات المختلفة بيّنت فيها عدد الإصابات وعدد النفوق وعدد الطيور المعدمة . يظهر من آخر تقرير صدر عن الهيئة في 29/4/2006 الخسائر التالية : 8.5 مليون دجاج تسمين أي 50% من مجمل ما كان مربّى على قلّته 18 مليون دجاج بيّاضة أي 80% من مجمل الدجاج البيّاض 1.8 مليون دجاجة بيّاضة بلدية أي 80% من مجمل الدجاج البلدي البيّاض 1.2 مليون أم تسمين تشكل 25% من مجمل أمات التسمين في حينه لكن هنالك 1.3 مليون أم تسمين إضافية نفقت دون الإعلان عنها 28000 جدة توازي 15% من الجدود المتوفرة في حينه 425000 بطة تساوي 80% من البط 11000 رومي تساوي أيضاً 80% من الرومي
تقدر خسائر مشاريع الدواجن خلال فترة إعادة التأهيل والتربية حوالي مليار جنيه مصري ارتفعت أسعار اللحوم والأسماك في الأسواق المصرية حوالي 20% وهي كانت مرتفعة الثمن مقارنةً مع لحم الدواجن أصلاً الأمر الذي حصر استهلاكها بأصحاب الدخل المرتفع خلال هذه الفترة حرمت شرائح كبيرة من المجتمع المصري والتي تشكل أصحاب الدخل المتوسط والمنخفض من استهلاك البروتينات الحيوانية من لحوم وأسماك بسبب غلاء سعرها وعن لحوم الدواجن بسبب الخوف والهلع أشارت إحصاءات مركز المعلومات لدى رئاسة مجلس الوزراء بأن 275000 إنسان خسروا وظائفهم جراء أنفلونزا الطيور خاصةً بعد الإصابة
الأخطاء التي ارتكبت
بالرغم من أخبار انتشار أنفلونزا الطيور في دول عديدة من العالم لم تلجأ الحكومة إلى وضع خطة جهوزية لمواجهة مرض أنفلونزا الطيور وخاصةً بعد وصول المرض إلى تركيا وتأثير ذلك على المستهلك المصري . فقد ظلّت متفرجة بالرغم من النداءات التي كانت تصلها . فالسلطات البيطرية لم تقدم على تسجيل لقاحات أنفلونزا الطيور ولا سمحت باستيراد مخزون استراتيجي كجزء من الخطة الجهوزية . والحكومة لم تلزم تسكين الطيور الريفية وتمنع التربية على أسطح المنازل وتلزم تسكين الحمام .
لم تعدّ الحكومة خطة طارئة لمواجهة المرض بل تركت هذه الخطة إلى ما بعد حدوث الأمر الذي أدّى إلى التخبط في أخذ القرارات والحيرة من جراء استشارة المنظمات الدولية والخبراء المحليين وأصحاب الصناعة حول الطريقة الفضلى للمحاصرة والإعدام والتلقيح من عدمه . كلها كانت تدور في أروقة وزارة الزراعة بعد الإصابة بدل أن تكون قد اكتملت منذ أشهر وما على المعنيين إلاّ الانكباب على التنفيذ .
أخذت اللجنة القومية بتوصيات منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان بالمحاصرة والإعدام دون أخذ الظروف المصرية بالاعتبار وبالتالي اعتماد التحصين كجزء هام وأساسي من الخطة الطارئة . تصرفت وكأنها تجهل انتشار تربية البط والإوز والرومي والحمام في الأرياف وعلى أسطح المنازل ، وكأنها تجهل كثافة تربية الدواجن في محافظات الدلتا وإمكانية انتشار المرض كالنار بالهشيش .
ما زلنا لا ندري تردد اللجنة الفنية في اعتماد سياسة التحصين إلى جانب المحاصرة والإعدام خاصةً وأنه تم الإعلان عن ثماني عشرة بؤرة في 18 فبراير 2006 أي بعد مرور يوم واحد على الإعلان عن إصابة مصر بأنفلونزا الطيور .
والذي زاد الطين بلّة هو فشل السلطات في منع خروج الطيور وإنتاجها من الدوائر المحاصرة ممّا فشّل فكرة المحاصرة والعزل أصلاً .
أخذت المداولات والاستشارات أسابيع حول اعتماد التحصين الأمر الذي أدّى إلى الكارثة في انتشار المرض والفشل الذريع في محاصرته . فقد أوصت اللجنة الفنية باعتماد التحصين بعد أن انتشر المرض في 16 محافظة .
أما المضحك المبكي فهو قرار اللجنة بحصر التحصين بالجدود وأمات البيّاض دون أي أساس علمي وهذه الدواجن كانت تشكل واحد بالماية فقط من أعداد الدواجن في مصر .
إن تأخر اللجنة الفنية في تعميم التحصين أدّى إلى خسارة ثلاثين مليون طائر خلال عشرة أسابيع تشكل 60% من مجمل الطيور التي كانت موجودة عشية ظهور الإصابة . أما المرض فقد أصاب عشرين محافظة ولم يترك أية محافظة تتواجد فيها دواجن .
دور منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان
هنالك غياب للتنسيق الكامل بين منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان من جهة وبين منظمة الصحة العالمية بشأن التعامل مع أنفلونزا الطيور . فبينما تحاول الأولى الاهتمام بالطيور ومنع تعرضها للمرض وانتشاره في العالم تحاول الثانية إلى تجسيم خطر الوباء على الإنسان وتفرض رأيها عند نقطة الحد من الانتشار .
فمنظمة الصحة العالمية اعتمدت حتى الآن فرض سياسة المحاصرة والإعدام في دوائر قطرها يتراوح بين 2 و 10 كم من أية بؤرة تظهر فيها الإصابة . كما تفرض الجهوزية الكاملة لاستقبال حالات أنفلونزا الطيور لدى المصابين من الناس وتفرض أخيراً الإعلان عن الحالات التي تظهر مع ما يترافق من تغطية الإعلام لهذا الإعلان بصورة تثير الذعر والخوف لدى المواطنين . وكم سمعنا من وزراء الصحة تصريحات تفيد بأن همهم الأول هو حماية الناس ولو على حساب صناعة دواجن بكاملها . وبناء لذلك فإن خسارة مليون طائر في مصر لا توازي موت حالة بشرية بسبب أنفلونزا الطيور . وهذا الأمر في رأيي هو مبالغة قضت على عديد من العاملين في صناعة الدواجن في العالم . ففي حين مات ماية إنسان في العالم خلال عشر سنوات مصابون بأنفلونزا الطيور قضى ما لا يقل عن خمسة ملايين إنسان من أنفلونزا الإنسان المنتشرة بين البشر خلال ذات المدة . فأين نحن من قصة المضادات التي نزلت للأسواق للتخفيف من تأخير الإصابة بأنفلونزا الطيور وما يحوم حولها من أخبار بلايين الدولارات التي حصدتها الشركات المنتجة لهذه المضادات عندما سارعت الحكومات بشراء كميات منها وخزّنتها على الرفوف في وزارات الصحة ليكون مصيرها الإتلاف بعد انتهاء مدة صلاحيتها . هل كان بإمكان هذه الشركات جرّ الحكومات والناس على شراء كل هذه الكميات الضخمة لولا تجييش الرأي العام عن طريق وسائل الإعلام وبث روح الرعب في نفوسهم ؟
أما منظمة الأغذية والزراعة والمنظمة العالمية لصحة الحيوان فقد تمادتا في التوصية بالمحاصرة والإعدام وانصاعا لتوصيات منظمة الصحة العالمية بشكل شبه أعمى. ومع أن المسؤولون عن هاتين المنظمتين كسبوا خبرات كبيرة خلال العشر سنوات السابقة من حالات أنفلونزا الطيور في العالم وقدموا نصائح جلّة في شؤون كالجهوزية وتطوير القدرات التقنية والقدرات المعملية وفي التدريب لكنهم فشلوا في عديد من الأمور أهمها :
عدم التركيز على حماية صناعة الدواجن من هذا المرض واعتبار المرض مرض طيور أولاً وقبل كل شيء عدم التركيز على التحصين كآلية هامة ومفيدة في الحد من انتشار المرض بين الطيور وبالتالي الحد من إحداث كارثة اقتصادية عدم التركيز على أن التحصين يخفف من حدوث حالات بشرية لأنه يخفف من كثافة الفيروسات المنتشرة عدم الاستعداد الواضح والصريح بنصح الحكومات على تبنّي سياسة التحصين في حالات كالحالة المصرية وبظروف تربية الدواجن وتسويقه في مصر عدم النصح وعدم الاهتمام بالشأن الوقائي وبسياسة الإنقاذ وبشكل أخص عدم الاهتمام بالأمور التالية : النصح بالمسافات الدنيا الواقية بين المزارع تأكيد ضرورة إلزام العمر الواحد بالمزرعة الواحدة التطرّق لكل وسائل وتفاصيل الأمن الحيوي وفرضه على منتجي الدواجن التعامل السليم مع الحمام والطيور الأليفة الأخرى التعامل مع الدجاج السائب في القرى والأرياف التعامل مع بيع الدواجن الحية في المدن والقرى منع الصيد للطيور البرية
لقد حصرت المنظمتان اتصالاتهما مع الحكومات الأمر الذي أدّى إلى التعامي عن معرفة حقيقة ما يجري على الأرض ولدى المزارعين وتجار الدواجن . وحصرت المنظمتان معلوماتهما من مصادر بيروقراطية صرفة قد لا تكون الأكفاء في تقييم الحالة وفي وضع أسس الوقاية والعلاج . كما بفعلها هذا منعت عن أصحاب الشأن أي المزارعين من إبداء وجهة نظرهم وبالتالي إلى مقاومة التوصيات والإجراءات التي تطلب منهم .
لقد ركزت المنظمتان جهودهما على تقوية قدرات الأجهزة الحكومية في مجالات الجهوزية والمعملية وخطط الطوارئ وإحياء الندوات وورشات العمل لكن مع الأجهزة الحكومية دون إشراك القطاع الخاص ومعظمها موجّه نحو الانقضاض على الصناعة وليس على إنقاذها . وبذلك تكون المنظمتان قد ظهرتا كأنهما مولجتان بالقضاء على صناعات الدواجن بالعالم .
الدروس والعِبَر
كان على الحكومة الاستماع لنداءات أصحاب صناعة الدواجن منذ 2002 وخاصةً نداءاتها بعد ظهور المرض في تركيا في سبتمبر 2005 وبعد أن أحدث ذلك حالة من الذعر نتج عنها انخفاض حاد في استهلاك البيض ولحم الدواجن . كانت النداءات تدعو إلى إعداد خطة جهوزية واضحة للتخفيف من إمكانية وصول المرض إلى مصر .
كان على الحكومة تأليف لجان يكون معظم أعضائها من القطاع الخاص وليس من الموظفين وأساتذة الجامعات فحسب . ذلك أن القطاع الخاص هو المعني مباشرةً في الثروة الداجنة وهو صاحبها وهو العارف بما يجري على الطبيعة وهو الذي يراد منه تنفيذ القرارات وبالتالي التعاون في ذلك وليس التمرّد والاعتراض .
كان على الحكومة اعتماد الإجراءات الوقائية البديهية التالية :
فرض تسكين كل الطيور غير التجارية في القرى والأرياف كالحمام والبط والدجاج والإوز والرومي تهديم كل أبراج الحمام منع تربية الدواجن في المدن بالجنائن أو فوق أسطح المنازل منع الصيد والتشدّد بتنفيذه منع التداول بالدواجن الحية بالمدن أولاُ ثم بكافة أنحاء البلاد تسجيل لقاحات أنفلونزا الطيور H5 والسماح للقطاع الخاص باستيراده كمخزون استراتيجي يتم استخدامه عند ظهور المرض السماح باستخدام اللقاح لكافة أنواع الطيور عند لحظة ظهور المرض دون إبطاء تبني تحصين كل الطيور بالأرياف التي تم تسكينها على نفقة الحكومة وإعدام كل ما هو غير مسكّن منها الإعداد والإعلان عن خطة تعويض عادلة ومنصفة لكل المزارعين الذين يصابون أو تعدم قطعانهم على أن يتم دفع قيمة التعويض فور الإعدام
كان على القطاع الخاص اعتماد أنظمة الأمن الحيوي للتخفيف من انتشار مرض أنفلونزا الطيور . وهذا أمر كان على الحكومة تعميمه وإلزامه كجزء من خطة الجهوزية التي أشرنا إليها . لكن ثبت من التجربة المصرية المؤلمة بأن لأنظمة الأمن الحيوي محدوديتها في منع وصول المرض إلى المزارع المعتمدة أقصى درجات الأمن الحيوي ومنها :
قرب المزارع من بعضها حيث أن القانون يلزم فقط إبعاد 500 متر وهي غير كافية خاصةً في ظل تعميم إجراءات المحاصرة والإعدام
نقل الطيور الحيّة بين المناطق المختلفة ونشر المرض بواسطتها
حرية حركة الحمام وبعض الطيور المدجّنة كالعصافير وأبو قردان واليمام والغراب وغيرها
حركة الطيور المهاجرة ووصولها إلى المستنقعات والسهول والترع والبرك الطبيعية
حرية حركة الكلاب والقطط الشاردة
العواصف الرملية والرياح الخماسينية
كثافة المرض في الأجواء وخاصةً في حالات المحاصرة وعدم ضبط الحركة من هذه الدوائر المحاصرة
كل هذه العوامل تؤثر على قدرة أنظمة الأمن الحيوي لمنع إصابة المزارع التي تعتمد هذا النظام . فما بالك بتلك التي لا تعتمدها .
لعبت الرشوة وعدم الانضباط وعدم احترام القرارات دوراً كبيراً في سرعة انتشار المرض في مصر . وهذا يعيدنا إلى التوصية بأهمية إشراك القطاع الخاص في أخذ القرارات حتى يتحمل مسئوليتها ويساهم في تنفيذها . من هنا نشأت حالة من عدم الثقة بين المزارعين والفلاّحين والدولة. أما المبالغة في نشر أخبار الحالات البشرية من الدولة ووسائل الإعلام فقد كان لها حصتها الكبرى في الكارثة الاقتصادية لصناعة الدواجن خاصةً وإن :
انحصرت الحالات البشرية بالريفيات اللواتي كنّا يخبّئن طيورهن في منازلهن ولدى تعرضها للإصابة نقلت إليهن وكان عددهن 15 إصابة مات منها خمسة. تعرض آلاف العمال والمشرفين على المزارع وكذلك من القوات المسلّحة لفيروس H5 ولم تحدث حتى إصابة واحدة بينهم لا مرضاً ولا موتاً ثبت أن هنالك آلافاً مؤلفة من المزارعين العاملين في الدواجن يحملون أجساماً مناعية لأنفلونزا الطيور الأمر الذي يؤكد إصابتهم دون أي تأثير ظاهري عليهم هنالك ملايين من الناس في العالم وخاصةً الذين يتعاملون مع الدواجن يحملون أجساماً مناعية لأنفلونزا الطيور مما يؤكد إصابتهم دون أي تأثير ظاهري عليهم لقد أفلحت شركات عالمية في تجهيز لقاح أنفلونزا الطيور للإنسان وهو الآن في طور التجارب النهائية قبل تعميمه ، الأمر الذي سيحدث في القريب العاجل حالة من الاطمئنان لدى المواطنين في كل أنحاء العالم
يمكن القول بعد كل ما تقدّم بأن حالة أنفلونزا الطيور في مصر كانت الأسوأ حتى الآن في العالم نتيجة سوء التعامل معها قبل ولدى وبعد حدوث الإصابة . على العالم أن يأخذ من هذه التجربة عبراً أهمها الاعتماد على تعميم تحصين الدواجن ضد هذا الفيروس في كل بلد يمكن أن يتعرض لهذا المرض بسبب طريقة تربية الدواجن فيه أو هو مهدد من جيران له تعرضوا للمرض أو فور حدوث أول حادثة فشلت المحاصرة في الانتهاء منه خلال أيام محدودة . كما على العالم أن يقبل التعايش مع أنفلونزا الطيور ولا يعتبره خطراً على الإنسان خاصةً للمستهلكين . وعلى منظمة الصحة العالمية ووزارات الصحة ووسائل الإعلام الكفّ عن التركيز على حدوث وباء بين البشر لأنها بذلك تحرم قطاعات كبيرة من المواطنين من استهلاك البروتين الحيواني والذي يتوفر لهم من بيض ولحم دواجن بثلث سعر المصادر الأخرى على الأقل .