مقدمة يضم العالم العربي أثني وعشرين دولة مستقلة تشمل الجزء الجنوبي الغربي من القارة الآسيوية وكل شمالي القارة الافريقية والجزء الأعظم من شرقي القارة الأفريقية . ومع أنها تغطي مساحات شاسعة من الصحراء لكنها تتمتع بثروات طبيعية ضخمة من بترول ومعادن واسماك واراضي خصبة إذا ما أحسن إستغلالها وأحسن تسخيرها لمصلحة شعوبها ، فأن هذه الثروات تمكن العالم العربي مجتمعاً ومتعاوناً من إنتاج كل ما يحتاج إليه من غذاء.
تبلغ مساحة أراضي الوطن العربي 1378 مليون هكتار أي عشرة بالمائة من مساحة أراضي الكرة الأرضية ( بيان رقم 1) وتبلغ مساحة الأرض القابلة للزراعة 538 مليون هكتار أي 39 % من مجمل الأراضي ، وهذا الرقم يمثل 11 % من نسبة أراضي العالم القابلة للزراعة . وعليه فأنه من الممكن إستصلاح وإستغلال هذه الأراضي وزيادة إنتاجيتها لتؤمن للعالم العربي الإكتفاء الذاتي الذي يصبو عليه .
بلغ سكان العالم العربي عام 2005 ، 330 مليون نسمة ( بيان رقم 2 ) يعيش 23% منهم في جمهورية مصر العربية ويعيش في كل من الجزائر والمغرب والسودان 31% . تشكل نسبة سكان العالم العربي 5 % من سكان العالم البالغة 6650 مليون نسمة.
يتعاطى 36 مليون نسمة في العالم العربي الزراعة ، يمثلون 10.4 % من السكان ، بينما يتعاطى 20% من سكان العالم الزراعة.
أما العاملون مباشرة بالدواجن فتقديري أنهم يبلغون 78 ألف نسمة أي 0,22 % من العاملين بالزراعة وهي نسبة تزيد عن نسبة المتعاملين بالدواجن في العالم . نلاحظ هنا النسبة الضئيلة من السكان التي تتعاطى إنتاج الدواجن في العالم وفي الدول العربية على السواء. يعود ذلك إلى الطرق الحديثة والمكننة المستخدمة في صناعة الدواجن في معظم دول العالم والتي تخفف من إستخدام اليد العاملة. منها تربية الدجاج البياض بالأقفاص والمفاقس الآلية والمذابح ومصانع الأعلاف الآلية الخ ... فنسبة العاملين في قطاع الدواجن في العالم العربي تبلغ 0.24 بالآلف من عدد السكان بينما تبلغ 0,35 بالألف في العالم . وهكذا نلاحظ أن صناعة الدواجن مع كل أهميتها في إنتاج البروتين الحيواني للإنسان لا تستخدم إلا قدراً يسيراً من القوى العاملة.
تتركز صناعة الدواجن في العالم حول إنتاج مادتين غذائيتنين للإنسان هما بيض الأكل ولحم الدجاج . تدور في محور هاتين المادتين صناعات مختلفة أهمها:
تأصيل السلالات الأكثر إنتاجية – تربية الجدود وتربية الأمات - تفريخ البيض على أنواعه – زراعة المحاصيل العلفية وتصنيع بعضها – صناعة الأعلاف المركزة والجاهزة – ذبح وتجهيز دجاج اللحم وحفظه وتوزيعه – تعريب وتوضيب وتخزين وتوزيع بيض الأكل – تصنيع اللقاحات المختلفة لتحصين الدجاج – صناعة الفيامينات والمعادن النادرة – صناعة الأدوية البيطرية والمعقمات- صناعة المعدات – صناعة مواد التعبئة والتوضيب – تصنيع لحم الدجاج وبيض الأكل بأشكال إستهلاكية مختلفة.
ولتبسيط البحث سوف أركز على إنتاج بيض الأكل ولحم الدجاج.
إنتاج بيض المائدة
بلغ إنتاج بيض الأكل عام 2005 في العالم العربي ( بيان رقم 3) 23.9 مليار بيضة تشكل فقط 2.5 % من إنتاج العالم بينما نسبة سكان العالم العربي 5.3 % كما أسلفنا. جاء نصيب الفرد من هذا الانتاج يتراوح بين 17 بيضة في جزر القمر و 212 بيضة في لبنان.
أما المعدل العام فكان 71 بيضة للفرد مقارنة مع 146 بيضة في العالم . أتوقع أن يرتفع الإنتاج في كل بلد عربي بحلول عام 2015 ليصل إلى ما يقرب من الإكتفاء الذاتي في معظم الدول العربية 0 وعليه فأنني أقدر أن يصل معدل نصيب الفرد في الإستهلاك وبالتالي الإنتاج إلى 83 بيضة فيرتفع بذلك الإنتاج عما هو عليه عام 2005 بنسبة 50 % بسبب زيادة السكان بنسبة 25% في 2015 ليصل إلى 418 مليون نسمة . عندها سيتراوح نصيب الفرد بين 22 بيضة في جزر القمر و 333 بيضة في لبنان . وإذا نظرنا إلى بيان (رقم 4) نرى أن تقديراتنا لإنتاج عام 2015 والمبينة على أساس معدل إستهلاك 83 بيضة للفرد تشكل في الواقع 32 % من معدل إستهلاك الفرد في الدول الصناعية خلال 2005 ، وعليه فأنها تقديرات متواضعة جداً.
تجدر الإشارة هنا إلى أن التبادل التجاري لبيض المائدة بين الدول يكاد يكون معدوماً الّهمّ إلاّ بين دول مجاورة جداً تسمح بإنتقال البيض طاجزاً خلال يوم أو يومين كي يبقى على طزاجته. ذلك أن المستهلكين في كل أنحاء العالم يرغبون البيض طازجاً غير مبّرد . وعليه يمكننا الإستنتاج على أن إستمرارية إنتاج بيض المائدة لكل دولة على حدة هي شبه مضمونة ويمكن الركون إلى توقعات زيادة الإنتاج لتواكب الزيادة العددية في السكان والزيادة المرتقبة في معدّل إستهلاك الفرد. لهذا السبب فأنني لم أتطرق إلى توقعات الإستيراد والتصدير لبيض المائدة بين الدول العربية أو من خارجها.
إنتاج لحم الدواجن
قصة إنتاج لحم الدواجن في الدول العربية تختلف تماماً عن قصة إنتاج بيض المائدة. فكلفة الإنتاج في الدول العربية تكاد تكون متقاربة جداً لأن معظم الدول العربية تعتمد على إستيراد موادها العلفية ومستلزمات الإنتاج الأخرى من جدود مؤصلة وأمات مؤصلة ولقاحات وأدوية ومعقمات. لذلك وبالمقارنة مع الدول الأخرى ، خاصة تلك التي تنتج أعلافها وبعض أو كل مستلزمات انتاجها الأخرى ، فأن كلفة الإنتاج في الدول العربية تصل إلى 50% أعلى بالنسبة لإنتاج بيض المائدة وضعف كلفة الإنتاج بالنسبة للحم الدواجن . من هنا يمكننا الإستنتاج أن إمكانية الإستيراد موجودة وقائمة وسياسة فتح باب أو تخفيف الإستيراد تقع على كل دولة من الدول العربية على حدة.
ولو نظرنا إلى بيان رقم ( 5) نرى أن مجموع إستيراد لحم الدواجن في معظم الدول العربية عام 2005 بلغ 1126 ألف طن وهذا يوازي 31 % من إستهلاك هذه الدول. ومعظم هذا الإستيراد مركز على خمس دول هي الكويت والسعودية والعراق والإمارات المتحدة واليمن حيث باب الإستيراد مفتوحاً أو شبه مفتوح وحيث نمط الإستهلاك يقبل بالدواجن المجمدة.
ولما كانت سياسة الإنفتاح قد تم إعتمادها في معظم الدول العربية ، ولما كانت ذات الدول قد إنضوت تحت مظلة منظمة التجارة العالمية ، ولما كان الفارق بين كلفة إنتاج لحم الدواجن في الدول العربية ضعف ما هو عليه في بلدان كالبرازيل والأرجنتين وتايلند والولايات المتحدة الأميريكية وغيرها ،ولما كانت معظم الدول العربية قد إعتادت على الإقبال على لحم الدواجن المجّمد ، لهذه الإسباب مجتمعة ارى أن إنتاج لحم الدواجن في العالم العربي سوف يتقلص ليحل محلّه لحم الدواجن المجمّد المستورد الّهم الاّ ما هو مطلوب طازجاً أو حيّاً . وهذا الأخير سوف يتراوح بين 10 و 50 % من حجم الإستهلاك السنوي بين بلد وآخر نسبة لنمط الإستهلاك والقوة الشرائية والسياسة الحمائية أو الإنفتاحية المعتمدة في كلّ من هذه البلدان.
من هنا جاء بيان رقم ( 5) ليظهر حجم الإستيراد من لحم الدواجن لكل بلد عربّي في عام 2005 والذي بمجموعه يشكل 31 % من حجم الإستهلاك (بيان رقم 6 ).
أما توقعاتي لحجم الإستيراد عام 2015 فهي أن يتضاعف ليشكل 42% من حجم الإستهلاك . بينما معدّل إستهلاك الفرد سوف يرتفع من 12.3 كيلو عام 2005 إلى 14.9 كيلو في عام 2015 وهو إرتفاع طفيف بالمقارنة مع معدّل إستهلاك بعض البلدان الصناعية الذي يشير إلى 33.5 كيلو للفرد عام 2005 (بيان رقم 8).
اللافت للإنتباه من بيان رقم ( 6) الفارق الكبير في معدّل إستهلاك الفرد بين الدول العربية. فمن 0.8 كيلو في السودان إلى 57 كيلو في الكويت في عام 2005 مروراً بسوريا 6.8 كيلو وليبيا 18 كيلو ولبنان 23 كيلو . والجدير ذكره ان أعلى معدّل إستهلاك للحم الدواجن في العالم هو57 كيلو في الكويت يليه 54 كيلو في الولايات المتحدة الاميركية.
أمّا إنتاج لحم الدواجن في العالم العربي ( بيان رقم 7) فيظهر تراجعاً في معدل نصيب الفرد بين عام 2005 و 2015نسبة لتقلص الإنتاج على حساب الإستيراد . يظل هذا الإنتاج في مجمله ضعيفاً لأنه يشكل 3.37 % من إنتاج العالم بينما تشكل نسبة السكان في العالم العربي 5.3 % من سكان العالم كما أسلفنا.
تداعيات إنتشار إنفلونزا الطيور في العالم العربي
منذ عام 1997 وإنفلونزا الطيور شديد الضرواة H5 و H7 ينتشر من بلد إلى آخر في العالم لا ليقضي على ملايين من الطيور فحسب بل ليصيب الآلاف من البشر فيقتل منهم ما يزيد عن 160 شخصاً .
تكمن أهمية هذا المرض والضجة التي أثيرت حوله في إمكانية تحور الفيروس المسبب له بحيث ينتقل من إنسان إلى إنسان وبالتالي يقضي على الآف بل ملايين الناس. لكن وبعد مرور عشر سنوات على إنتشاره ثبت على أن إجراءات عديدة تم إستخدامها للحد من إنتشاره وبالتالي الحد من إمكانية حدوث الوباء المخيف. فإستخدام اللّقاحات المعطلة في معظم الدول التي أصيبت قد أثبتت فعاليتها ووقاية الطيور من المرض والتخفيف إلى حدود منع تكاثره من الطيور المحصنة وبالتالي منع نشره خلافاً لمعتقدات عديد من العلماء في العالم وخاصة الأطباء البشريين. وإعتماد إجراءات الحظر الوقائي في المزارع التجارية في كافة أنحاء العالم وإبعاد مزارع الخنازير عن مزارع الدواجن وفصل النشاط الداجني عمّا عداه في المزرعة التجارية الواحدة كلّها حدّت من الإنتشار .
أما معظم الدول الصناعية فقد اعتمدت سياسةمحاصرة وإعدام الطيور المحيطة في بؤرة الإصابة بمسافات تتراوح بين 3 و 10 كيلومتر ودفعت تعويضات محقة لأصحاب هذه المداجن ومنعت إنتقال الطيور من المحيط المحدد إلى خارجه عن طريق إجراءات صارمة جداً . والأمر الذي ساعدها على أيقاف إنتشار المرض إنعدام أو شبه إنعدام إنتشار تربية الدواجن في الأرياف طليقة.
لكن من المؤسف جدّاً أن معظم الدول النامية والفقيرة ، والتي لم تستطع إعتماد سياسة المحاصرة والإعدام والتي لجأت إلى السماح بإستخدام اللقاحات المعطّلة لحماية الطيور ، فشلت في تحصين الطيور الريفية الأمر الذي أبقى المرض منتشراً في هذه الطيور الطليقة. أن هذا الفشل أدى إلى الإصابات البشرية التي عرفنا في دول شرق آسيا وفي تركيا ومصر . وهذا الأمر يثبت فعالية إجراءات الأمن الوقائي وإستخدام اللقاح كأهم الإجراءات التي حدّت وستحدّ من إنتشار إنفلونزا الطيور في العالم.
أمّا في العالم العربي فقد إنتشر إنفلونزا الطيور خفيف الضراوة H9 في دول الخليج العربي والعراق والسعودية واليمن والأردن وسوريا ولبنان منذ عام 2002 الأمر الذي حدا بكل هذه الدول إلى إستخدام اللقاح المعطل لتحصين كافة أنواع الطيور ووضع حد لإنتشاره وتأثيره على نسب النفوق وإنتاجية هذه الطيور . ومن حسن الطالع أن أنفلونزا الطيور خفيف الضرواة هذا لم ينتقل إلى القارة الافريقية حتى الآن وبالتالي فأن الدول العربية في هذه القارة لم تصب به.
لكن من المؤسف جداً أن تكون مصر هي الدولة الوحيدة بين الدول العربية التي أصيبت في مطلع عام 2006 بمرض إنفلونزا الطيور شديد الضراوة H5N1 الذي أطاح بأربعين بالماية من الدواجن فيها وغيّر من بنية هذه الصناعة وفي السياسة الحمائية للحكومة تجاهها وأطاح بفرص إعادة هيكليتها وتنظيمها وتطويرها. فالسبب الرئيسي في حدوث هذا المرض في مصر تحديداً هو إنتشار التربية الريفية الطليقة للدجاج والبط والوز والرومي والحمام في كافة المحافظات وفي إنتشار تربية الدواجن في مزارع بدائية متجاورة جداً في الريف المصري وفي إنعدام إجراءات الحظر الوقائي في هذه المزارع.
جاء السماح بإستخدام اللّقاح المعطّل H5 ، ولو متأخراً ، ليقي كل المزارع التجارية منذ منتصف عام 2006. لكن ظلّ المرض منتشراً في الريف لأن الفلاحين لم يقدموا على تحصين طيورهم ولا قامت الحكومة بواجبها وحصنت هذه الطيور لهم الأمر الذي تسبب بموت عدد من الريفيات اللواتي يقتنين هذه الطيور في منازلهن واللواتي أعتدن على ذبح ونتف وتنظيف أي طير تظهر عليه علامات اي مرض كان. ومع أن عدد الإصابات البشرية لم يتعدّ الخمس عشرة حالة خلال ما يزيد عن سنتين، ومع أن الوفيات إقتصرت على الريفيات، ومع أنه ثبت للمسئولين أنّه لم يتعرض أي من الألاف من العاملين في المزارع التجارية للمرض، فأن الحكومة المصرية ضاقت ذرعاً من تكرار الإصابات على قلتها فأخذت إجراءات مشددة في حركة إنتقال الطيور الحية من المزارع إلى المجازر وإلى أسواق بيع الطيور الحية . وأخذت قراراً بإغلاق منافذ بيع الطيور الحية لكنها لم تستطع تنفيذه تنفيذاً كاملاً . والجدير ذكره هو أن 70 % من تسويق دجاج اللحم كان عن طريق منافذ بيع الطيور الحية في المدن والقرى في كافة محافظات الجمهورية.
ومع أن السلطات البيطرية المصرية المختصة اتخذت إجراءات إختبار عينات من كل الطيور التي تعد للتسويق للتأكد من خلوها من فيروس إنفلونزا الطيور قبل السماح لنقلها ومع أن هذا الإجراء يعّد كافياً لمنع إنتشار المرض عن طريق هذه الطيور، لكن الحكومة ظلت مصرة على ملاحقة وإقفال منافذ بيع الطيور الحية. هذا الإجراء جاء فجأة في غياب مجازر كافية وعطّل تسويق الدواجن عن طريق النمط السائد والطاغي وبالتالي خفضّ من التربية ومن المعروض. ونتج عن هذا الإجراء أن أرتفعت الأسعار في صيف 2006 الأمر الذي دعى الحكومة المصرية لفتح باب إستيراد الدجاج المجّمد لمدة تسعة أشهر متتالية مع إلغاء التعرفة الجمركية بواقع 30 % . وهكذا وبعد مضي عشرين سنة دون تواجد الدجاج المجمد المستورد رأيناه يغزي الاسواق والمطاعم والفنادق والقرى السياحية.
وبالرغم من إبداء كبار أصحاب صناعة الدواجن عن إستعدادهم لتطوير هذه الصناعة ونقل الجزء الأكبر من التربية من الريف إلى الصحراء وإنشاء المزارع والمجازر الحديثة ، لكن إصرار الحكومة على الإستمرار بالإستيراد وتأكيدها على نيتها بإلغاء الحماية الجمركية في غضون سنتين أو ثلاثة ، جعل المستثمرين يتردّدون في القيام بإستثماراتهم لأنهم يعلمون أن كلفة الإنتاج في بلدان تنتج موادها العلفية ولديها الخبرة والقدرة الإستثمارية على زيادة إنتاجها لسد أي طلب في العالم كالبرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة وتايلند والهند ، قادرة على إغراق السوق المصري بلحم الدجاج المجّمد وبأسعار تقل كثيراً عن كلفة إنتاجه في مصر.
وهكذا نرى أن حكومة أكبر بلد عربي اهملت في أخذ الإحتياطات اللازمة لمنع دخول وإنتشار مرض أنفلونزا الطيور بالرغم من التهديد الذي كان يرد لها من الشرق الأقصى منذ عام 1997 ومن الدول العربية المجاورة منذ 2002 التي اصيبت بإنفلونزا الطيور خفيف الضراوة H9 ومن تركيا التي أصيبت بإنفلونزا الطيور شديد الضراوة H5N1 في أول خرف 2005 . والحكومة المصرية هذه تأخرت في السماح بإستيراد اللقاح لوقاية المزارع 0 ومجرد أن سمحت انبرى القطاع الخاص التجاري بتحصين طيوره وإيقاف المرض عند حده. لكن الحكومة توقفت عند السماح بإستيراد اللقاح وفشلت في تحصين الطيور الريفية الطليقة الأمر الذي أدى إلى إنتشار المرض بالريف وإحداث الإصابات البشرية . هذه الإصابات دّبت الذعر بالمسئولين وجعلتهم يلجأون إلى الكفر بصناعة الدواجن والتضحية بها وفتح باب الإستيراد ليحل المستورد المجمد محل الإنتاج المحلي االطازج. صناعة الدواجن هذه قيمتها تزيد عن 2.6 مليار دولار توظف ما لا يقلّ عن نصف مليون إنسان بصورة مباشرة وغير مباشرة وفّرت حاجة الإستهلاك المحلي لما يزيد عن عشرين سنة وصدّرت بمئتي مليون دولار سنوياً بيض التفريخ والكتاكيت إلى عديد من الدول العربية.
على بقية الدول العربية أن تأخذ العبرة مّما حل بمصر وتعدّ العدة لمواجهة هذا المرض فتفرض على المزارع التجارية تحت طائلة الإقفال إجراءات الأمن الوقائي، وتحصين الطيور ضد العترة السائدة خفيفة أو شديدة الضراوة ، وتفرض الإبعاد اللازمة بين النشاطات المختلفة ، وتمنع التربية الريفية الطليقة وتُلزم أصحابها بتسكينها ، وتلزم وتحصّن الطيور الريفية لأصحابها ،وتمنع التداول بالدواجن الحيّة ، وتحمي الصناعة المحلية كي تحفّز الإستثمار في المنشآت الحديثة ومنها المجازر الحديثة ، وتوفر الفحوصات المخبرية المجّانية للمزارعين ، وتمنع صيد الطيور البرّية ، وتعمّم التوعية اللازمة للمزارعين والمواطنين على حدّ سواء. هكذا تكون الحكومات قد ساهمت في وقاية بلدانها من وصول وإنتشار مرض أنفلونزا الطيور وتكون قد أحيت صناعة دواجن توفر البروتين الحيواني اللازم لمواطنيها غير معتمدة على إستيراده من بلدان أخرى قد تتعرض لإنفلونزا الطيور في مرحلة زمنية تجعل الإستيراد يتوقف وبالتالي تحرم مواطنيها من الحصول على البيض ولحم الدواجن لا مستورداً ولا منتجاً محليّاً.
سياسات الحماية والدعم في مقابل سياسة الإنفتاح
أن المنعطف الأساسي في رسم السياسة الإقتصادية لأي بلد من بلدان العالم يجب أن ينبع من مصلحة المواطنين ، كل المواطنين سعياً لخدمتهم . أن القطاع الخاص يستطيع أن يأخذ على عاتقه أكثر المسئوليات تعقيداً شريطة أن يكون طريقه ممهداً خالٍ من العراقيل وأن يكافأ مكافأة مادية عادلة على مجهوداته. فإذا لم تحيك الحكومات العربية قراراتها وقوانينها مستندة إلى مصلحة كل شرائح مجتمعاتها بالتساوي ، بمن فيهم المتعاطين بالزراعة ، فأنه من الصعب أن يتحقق التطور . ينطبق هذا القول على العاملين بالدواجن في كل البلدان العربية .
لقد فهمت الولايات المتحدة وأوروبا هذا المبدأ منذ زمن طويل . فلجؤا إلى حماية ودعم مزارعيهم لإبقائهم عاملين بحماس وسرور لتأمين غايات وحاجات أوطانهم من الأمن الغذائي والإبداع وتحسين الإنتاجية وسلامة الغذاء وتخفيف الكلفة وحماية البيئية . لقد عهدت الولايات المتحدة وأوروبا مؤخراً إلى ذات المزارعين مهمة إنتاج الوقود المتجدد من خلال التمويل والحوافز المادية . ففي الولايات الأميركية هنالك " قانون الزراعة " الذي يعاد النظر به مرة كل خمس سنوات من أجل التأكد من المعاملة العادلة والدخل اللازم لهؤلاء المزارعين بينما هم يسعون للوصول إلى الأهداف المرسومة . لقد فاقت المساعدات والدعم السنوي في الولايات المتحدة للمزارعين مبلغ الـ 180 مليار دولار. اما في الإتحاد الأوروبي فهنالك ما يسمى " بالسياسة الزراعية العامة " ، التي أنشئت منذ أربعين عاماً و التي تعاد صياغتها وزيادة المبالغ المخصصة لها من حين إلى آخر إلى أن فاقت الخمسين مليار يورو سنوياً .
فكلا الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي يقفان موقفاً متصلباً من دعم مزارعيهم مبرّرين هذه السياسة بالاسباب التالية :
تأكيد تأمين تدفق ثابت من الموارد الغذائية السليمة بأسعار طبيعية للمواطنين. توفير مستوى معيشة لائق للمزارعين بينما هم ساعون لتحديث وتطوير منشآتهم. التأكد من أن الزراعة تعّم كل المناطق. التأكد من أن البيئة محافظ عليها. توفير عناية صحيّة أفضل والرفق الصحيح بالثروة الحيوانية. منع هجر الأرض ومنع تجريد التربية بالمناطق الريفية. منع البطالة وتدني مستوى المعيشة في المناطق الريفية.
بالرغم من ضخامته ، فأن الدعم الزراعي في الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لا يتعدى 0.5% من الدخل القومي . المشكلة تقع في الدول النامية والفقيرة حيث الدخل القومي منخفض والقدرة على الدعم معدومة . من هنا فأنني لا أرى مبرراً معقولاً يدفع بالدول النامية للإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية إلا بشروطها هي . لا يمكنني لوم الدول المتطورة على سياسة الدعم التي تجذب الإبداع والإنتاجية والكفاءة والتقدم التكنولوجي . لكن يمكنني أن ألوم الدول النامية، ومن ضمنها الدول العربية ، لإندفاعها للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية ولإندفاعها لتوقيع إتفاقيات تبادل حر ثنائية دون أخذ مصالح مزارعيها بالإعتبار . أنها ليست دعوة لغلق الحدود لكنها رسالة كي تطبق معظم الدول النامية الخطوات الحمائية المتوفرة وكي يطبق بعضها القليل القادر خطوات الدعم تماماً كما تفعل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي .
من المؤسف حقاً أنّ تعامي الحكومات العربية عن إعتبارات عديدة مهمة في رسم السياسات الإقتصادية أدت وتؤدي إلى تردي الأوضاع الإقتصادية وإلى هجرة الرساميل والكفاءات .
فالإنماء المتوازن هو سمة الدول المتقدمة . فها هي الولايات المتحدة دولة صناعية بإمتياز لا تهمل الزراعة مثلاً . فقد أضحت بدعمها المباشر وغير المباشر للزراعة أكبر مصدر للذرة وفول الصويا في العالم وهي مكتفية ذاتياً بإنتاج القطن والأرز والدواجن والألبان واللحوم الحمراء . وها هو الإتحاد الأوروبي يدعم الزراعة لإبقاء مزارعي الأبقار والقمح والزيتون وغيرها في أرضهم. و ها هي كندا وبالرغم من إنضوائها تحت منظمة التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية " نافتا" تضع رسوماً جمركية على مستورداتها من الألبان والأجبان ولحوم الدواجن والأبقار تفوق 200 % من أي دولة بما فيها الولايات المتحدة ذاتها . وها هي اليابان تمنع دخول اللحوم الحمراء والأرز من الولايات المتحدة أو غيرها بالرغم من إنضمامها لمنظمة التجارة العالمية.
الجدير ذكره أن اتفاقيات تبادل المنتجات الزراعية شاملة المنتجات الغذائية في منظمة التجارة العالمية لم تبصر النور حتى يومنا هذا بالرغم من مرور خمسين عاماً على تأسيس منظمة الغات،التي تحولت إلى منظمة التجارة العالمية ، إحدى منظمات الأمم المتحدة. سبب ذلك يعود في الأصل إلى ممانعة الدول الصناعية وتشّبثها ودعم الزراعة في بلدانها.
أما لماذا استثنت وتستثني الدول الصناعية الزراعة من إتفاقات التبادل التجاري الحر فلإعتبارات أهمها المحافظة على الإنماء المتوازن بين قطاعات الإقتصاد المختلفة في بلدانها. فهي ترى وتسعى إلى الأمن الغذائي والإعتماد على النفس في توفير غذائها وهي ترى وتسعى إلى المحافظة على البيئة وعلى البنى الإجتماعية المتوازنة فلا تقبل بالتضحية بالمزارعين وتريدهم مواطنين ميسورين محترمين يكاد لا يختلف مستوى معيشتهم عن أي مواطن آخر وخاصة في حصولهم على ذات مستوى التعليم والإستشفاء والغذاء والشيخوخة كأي مواطن في الخدمات او الوظائف العامة أو في السياحة وغيرها.
أما تركيا فهي بلد يدعم تصدير كل منتجاته دعماً كبيراً بطرق مباشرة وغير مباشرة . وعامل الدعم هذا كان وما زال السبب الأساسي لقدرة تركيا على زيادة حجم صادراتها . والدول العربية الخليجية توفر الأرض والطاقة الكهربائية وكذلك المحروقات بأسعار تشجيعية للغاية. كما أنها تستورد كل الخامات الأخرى دون رسوم وتستخدم القوى البشرية الماهرة منها وغير الماهرة من دول أخرى وبذلك تنتج منتجات مختلفة وعلى رأسها منتجات غذائية بأسعارمنافسة .
اما المملكة العربية السعودية فهي تدعم الإنتاج الزراعي والصناعي بأشكال مختلفة على رأسها سعر الطاقة المنخض وسعر المحروقات المنخفض والأرض المجانية والقروض دون فائدة لأثنتي عشرة سنة والدعم المباشر لكلفة الإنتاج كالدعم لمادتي الذرة والصويا بخمسماية ريال عن كل طن مستورد . وفوق هذا وذاك تضع رسوماً جمركية على منتجات عديدة كالدواجن مثلاً بمبلغ ألف ريال على كل طن من الدواجن المستوردة المجلدة. وتمنع ومنذ 1986 دخول بيض المائدة والصيصان عمر يوم وبيض التفريخ من دول طوق إسرائيل وهي مصر والأردن وسوريا ولبنان دون أي سبب واضح غير الحماية للمزارعين السعوديين.
وهكذا نرى ان قدرة عديد من الدول المنافسة تعود أصلاً للدعم المباشر أو غير المباشر أو لتوفير عناصر الإنتاج بأكلاف متدنية منتجة أصلاً في بلدها ولا يعود إلى عبقرية الناس في تلك الدول أو لتفوقهم الفكري أو العلمي على غيرهم.
من هنا على المسؤولين العرب إعتماد مبدأ حرية التبادل التجاري بحسب مصلحة بلدانهم مع كل دولة على حدة وحرية أنسياب المنتجات بشكل حر غير مقيد بإتفاقات ملزمة معيقة لنموها الإقتصادي . فالفرق كبير بين حرية التبادل التجاري وإتفاقيات التبادل التجاري الحر بالنسبة إلى معظم الدول العربية ومكونات إقتصادها وحالة عجز ميزانياتها العامة وإرتفاع كلفة إنتاجها وبالتالي عدم قدرتها على التصدير.
فالحماية الجمركية مشروعة في منظمة التجارة الدولية وهي تترك مستواها للتفاوض مع الدول الأعضاء عشية دخولها في المنظمة . أن تشبث العالم العربي بجمارك مرتفعة لمنتجات صناعية وزراعية محددة لن يثير حفيظة الدول الشركاء في المنظمة خاصة وان الدول العربية بتكاليف إنتاجها المرتفعة لا تشكل عنصر تهديد لتصدير منتجات هذه الدول.
إمكانية تطور صناعة الدواجن في العالم العربي
يبدو لي أن تطور إنتاج بيض المائدة في الدول العربية هو أمر حتمي بسبب طلبه طازجاً وبالتالي ضرورة إنتاجه محليّاً بالرغم من زيادة كلفة إنتاجه مقارنة مع دول تنتج أعلافها كما ذكرنا سابقاً . والتطور في هذا المجال مفتوح لزيادة المكننة وإستخدام حظائر معزولة ومبردة على حساب الحظائر المفتوحة والتربية الأرضية. وعليه فأن التوقعات للإنتاج المرتقب في 2015 هي توقعات واقعية خاصة إذا ما تفحصنا إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة عن واردات أكبر 13 دولة عربية من بيض الدجاج خلال الفترة من 2000 إلى 2005 لنرى أنها تراوحت بين 383 مليون بيضة في عام 2000 و 415 مليون بيضة في عام 2005 وهذه تشكل 1.95% من حجم إنتاج هذه الدول فقط. تصدرت الدول المستوردة لبيض المائدة الكويت وليبيا.
لكن تطور إنتاج لحم الدواجن يعتمد على سياسات الدول العربية تجاه حماية أنتاجها المحلي من المستورد من دول كلفة إنتاجها نصف ما هو عليه كالبرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة الأميركية وتايلند والهند. وعودة إلى بياني رقم 5 و 6 يتبيّن بأن حجم الإستيراد في الدول العربية من لحم الدجاج بلغ 1.126 مليون طن عام 2005. وهذا يشكل 31% من حجم الإستهلاك لذات العام . وإذا ما راجعنا إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة نرى أن واردات أكبر 13 دولة عربية قد بلغت 465 ألف طن خلال عام 2000 وارتفعت إلى 770 الف طن خلال عام 2005 أي بزيادة 66 % خلال خمس سنوات . هذا بالرغم من أن معظم هذه الدول كانت وما زالت تفرض رسوماً جمركية على الدجاج المستورد يتراوح بين 20 و 70 % . هذا يعني بأن الدول العربية مهيئة لإستعياب الدجاج المستورد المجمّد وبأن زيادة إستيراده سوف تعتمد على تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة عليه وبالتالي سوف يكون الإستيراد هذا على حساب الإنتاج المحلّي.
في ظل هذا الواقع يبدو لي أن تطور إنتاج لحم الدواجن في معظم الدول العربية يعتمد على أحد إجرائين أو الأجرائين معاً:
رفع سقف الحماية الجمركية للمستورد منه. تخفيض كلفة الأنتاج 70 % على الأقل عّما هو عليه.
فبالنسبة لرفع سقف الحماية أعتقد ان معظم حكومات الدول العربية غير مهيئة لإعتماد هذا الإجراء . بل بالعكس فانها مهيئة لتخفيض مستوى هذه الحماية تدريجياً حتى إلغائها.
هذا يبقي الإجراء الثاني0 فلنتوسع في شرحه نظراً لأهميته . تخفيض الكلفة يعتمد على عاملين رئيسين:
تحسين الإنتاجية ورفع مستواها إلى مستويات الدول الأقل كلفة . يدخل تحت هذا الموضوع تخفيض معدّل نسبة النفوق بالقطعان المرباة على مدار السنة إلى ما يقـل عن 5 % ، وتخفيض عامل تحويل العلف إلى ما دون 1.7 ، وتحسين إنتاجية امات التسمين إلى ما يزيد عن 135 كتكوت لكل أم بدأت بالإنتاج . أن الوصول إلى هذه المعدّلات يخفّض كلفة إنتاج كيلو التسمين 30% عمّا هي عليه اليوم في معظم الدول العربية. أماتخفيض الـ 40 % المتبقية يعتمد على إمكانية إنـتاج مواد علفية أقّــل سعـراً مـن كلفة إستيرادها.
ظلّ سعر الذرة وفول الصويا المتوفرة للدول العربية في الفترة من عـام 1960 إلى2005 منخفضاً حتى قررت الولايات المتحدة الأميركية بتحفـيز إنـتـاج مادة الإيثانول من الذرة واخذت تغدق بالمال على من يرغب في بناء مصنع لإنتاج الإيثانـول وشرائه من هذه المعامل باسعار مرتفعة توازي ضعفي سعره في البرازيـل مما يشـجع العديد من المستثمرين على الأقبال الشديد على بناء هذه المصانع والإسـراع في التعاقـد مع مزراعي الذرة . وهكذا أخذ الطلب على الذرة يزداد وتـزداد معه الرقـع الزراعيـة المخصصة أصلاً لزراعة المحاصيل الاخرى كالقمح والفول الصويا والشعير والسورغوم. فإذا بالعالم بين ليلة وضحاها يشهد إرتفاعاً كبيراً بإسعار كل هذه المحاصيـل حتى وصل سعر الذرة والصويا في عام 2007 إلى ضعفي سعـر في 2005. ولما كانت أوروبـا والشرق الأوسط والصين وعديد من الدول أخرى تعتمد إعتماداً شـبه كليّ على إستيـراد هاتين المادتين فما كان عليها إلا الإنصياع ودفع القيمة المضاعفة. تشيـر الدراسات المتوفرة على ان الولايات المتحدة الأمريكية ستزيد من استخدامها السنوي من الذرة لإنتاج الإيثانول من 75 إلى 150 مليون طـن بحلـول 2015. والذرة للأعلاف والإستهلاك البشري ستبقى بحدود 190 مليـون طن سنوياً . هذا يعني أنه من غير الممكن إنخفاض سعر الذرة وفول الصويا والمحاصيل الأخرى إلا إذا زادت رقع زراعة هذه المحاصيل في الدول الأخرى كالأرجنتين والبرازيل وأوكرانياوغيرها.من هنا يمكن القول أنه اصبح ، وبظل هذه الأسعار المرتفعة ، بمقدور عدد من الـدول العربية على زيادة مساحات الأراضي المخصصة لزراعة المحاصيل ومنها الذرة وفول الصويا وتأمينها لمزراعي الدواجن بالسعر العالمي اي بأسعار تقل عن سعرها واصلاً من الولايات المتحدة الاميركية او الأرجنتين أقلّه بقيمة النقل البري والبحري والتي تزداد ارتفاعاً مع زيادة سعر الوقود عالمياً . هنا يكمن الأمل الوحيد في إمكانية تطوير إنتاج لحم الدواجن في العالم العربي . وما علينا إلا الإنتظار والترقب.
من المفيد ان نشير في هذا الصدد بأن السودان كان وما زال البلد العربي الوحيد المكتفي ذاتياً بتوفير الفيريتا ( السورغوم) والسمسم والفول السوداني الذين يوفران كسبة السمسم وكسبة الفول السوداني كلها بأسعار أصبحت تقل عن الأسعار العالمية للذرة وكسبة فول الصويا. والجدير ذكره بأن مساحة الأراضي القابلة للزراعة في السودان هي 135 مليون هكتار بينما المنزرع منها هو 16 مليوناً فقط. فالمطلوب إذن هو القوانين والتشريعات التي تحفز الإستثمار في الزراعة بالسودان وتسمح لرؤوس الأموال العربية بأن تتوجه للسودان كي تستصلح الأراضي وتبني الطرق وتوفر الآليات والكوادر الفنيّة اللازمة كي يصبح السودان المصدر الرئيسي للذرة والكسب العلفية لكل الدول العربية. وما يقال عن السودان يمكن أن يقال وإلى حد ما عن سوريا والعراق بإمكانياتها الكبيرة زراعياً.
دور البحث في تطوير صناعة الدواجن
إستناداً إلى ما تقدّم يبدو لي أن الأبحاث العلمية التي تحتاج إليها صناعة الدواجن في العالم العربي وبشكل ملّح ، ومن وجهة نظر المتعاملين بإنتاج الدواجن وإعلافها تنحصر في مسألتين : المسألة الأولى تتعلّق بإنفلونزا الطيور والمسألة الثانية تتعلّق بإنتاج المواد العلفية .
إنفلونزا الطيور
سبق وذكرنا بان انفلونزا الطيور يختلف عن كل ما عداه من أمراض الدواجن كونه يصيب الإنسان ويعرّضه للمرض او حتى للموت. كما أن تحوّر فيروس هذا المرض قد يجعله ينتقل من إنسان لإنسان وبالتالي يحدث وباء يصعب التحكّم بمستوى إنتشاره.
ولو نظرنا في إحصاءات الإصابات البشرية منذ ظهورها في عام 1997 حتى الآن نرى أنها محصورة بين الريفييّن والريفيّات في بلدان تكثر فيها تربية أنواع متعددة من الدواجن كالدجاج والبط والوز والرومي والحمام . وفي بعض هذه البلدان يضاف إلى هذه الدواجن تربية الخنازير. وجميع هذه يتم تربيتها في العراء دون مأوى يقيها التعرض للقوارض والحيوانات المفترسة والإختلاط بالطيور المهاجرة . وهذه الأخيرة كونها مهاجرة تحمل معها فيروسات وبكتيريات من بلد لآخر ومن قارة إلى أخرى شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً .
صحيح أن المحاصرة والأعدام هي وسيلة أثبتت فاعليتها في عديد من الدول وخاصة الصناعية منها، حيث التربية الريفية شبه معدومة وحيث تتم عملية عزل المنطقة المحاصرة عزلاً تاماً وحيث يتم تعويض المزارعين تعويضاً عادلاً يساهم في تعاونهم ، لكن المحاصرة والأعدام أثبتت فشلها في كل الدول النامية تقريباً . لذلك لجأ السواد الأعظم من الدول النامية إلى تعميم تحصين الدواجن للحد من إنتشار هذا المرض. لكن اللقاحات المستخدمة في العالم العربي كانت حتى وقتنا هذا مستوردة وناتجة عن عترات من الفيروس الذي ظهر في بلدان اخرى كالمكسيك والصين. ومع أنها أعطت نتائج جيدة، لكن يبقى التخوّف من التحور الذي يطرأ بالضرورة على فيروسات انفلونزا الطيور وبالتالي إمكانية ضعف المناعات أو إنعدامها أمام الفيروس المحوّر.
هنا يأتي دور البحث العلمي في ناحيتين:
إستنباط لقاحات ملائمة وممنّعة وتغييرها كلما إقتضت الضرورة. إنتاج إنتيجنات ملائمة تبيّن حقيقة المستويات المناعيّة المتأتية من إستخدام اللقاحات والتي على أساسها يمكن وضع برامج تحصين فعّالة للأعمار والانواع المختلفة للطيور.
إنتاج المواد العلفية
ظلّت دول صناعية عديدة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة الدول الأوروبية تدعم الإنتاج الزراعي منذ ما يزيد عن خمسين عاماً وحتى يومنا هذا لإعتبارات سبق وأن ذكرناها بشيء من التفصيل . أدّّى هذا الإجراء إلى توفير محاصيل زراعية عديدة وعلى راسها الذرة وفول الصويا بأسعار دون كلفة إنتاجها في معظم الدول النامية وعلى رأسها الدول العربية الامر الذي شجّع هذه الدول على إستيرادها والإنكفاء عن زراعتها.
إلاّ أن عاملاً هاماً دخل على الخط وغيّر المعادلة فجأة في عام 2006 وهو قرار حكومة الولايات المتحدة الأميركية إنتاج مادة الإيثانول من الذرة وشراء هذه المادة من المنتجين باسعار مرتفعة أسوة بأسعار النفط المرتفعة أي باسعار مدعومة من خزينة الدولة. وبتحوّل المزارعين لزيادة إنتاج الذرة الذي إرتفع سعره الضعف تقريباً تقلّصت بالمقابل المساحات المزروعة من القمح وفول الصويا وبالتالي إرتفعت أسعارها ايضاً . وهكذا إضطرت الدول المستوردة إلى شراء هاتين المادتين الهامتين في صناعة الدواجن بأسعارها المضاعفة تقريباً كونها لم تهيء ذاتها لإنتاج الذرة وفول الصويا سابقاً. والدول العربية تأتي في طليعة هذه البلدان المستوردة. من المعروف بأن السودان ينتج الفتريتا ( السورغوم ) والفول السوداني والسمسم منذ مئات السنين لكن بالزراعة المطرية . وهذه الوسيلة تجعل الإنتاج تحت رحمة الطبيعة فتراه يتراوح بين سنين مقبلة وسنين مجحفة . والسودان هو البلد الوحيد الذي يكتفي ذاتياً بتوفير هذه المواد علفاً للدواجن التي يتم تربيتها في السودان .
لقد اجريت تجارب محدودة في السودان على زراعة الفترتيا دون حراثة الأرض لكن بإستخدام الريّ وكانت نتائج هذه التجارب ممتازة أظهرت زيادة الإنتاج في الوحدة المساحية اربعة اضعاف إنتاج الزراعة المطرية . إستناداً إلى ما تقدم يبدو لي أننا بحاجة ماسة لإطلاق إنتاج المواد العلفية للدواجن في الدول العربية حيث مياه الريّ متوفرة وحيث مساحات الأرض الصالحة للزراعة موجودة خاصة في ظل السعر المرتفع لها عالياًً ولصعوبة تراجع هذه الأسعار العالمية .
لذلك تظهر الحاجة إلى البحث العلمي في هذا المجال على الأصعدة التالية :
إنتاج السلالات المؤصلة الملائمة للذرة الصفراء والسورغوم وفول الصويا والفول السوداني والسمسم وغيرها. إستنباط وسائل زراعة هذه المحاصيل بأقل قدر ممكن من الريّ كون الري عملية مكلفة خاصة في الأماكن التي تكون فيها مصادر المياه عميقة.