كثيراً ما يتساءل المواطنون كيف يعتمد المسئولون سياسة إقتصادية بعينها . هل تأتي حقاً إنسجاماً مع المصلحة الوطنية العليا ؟ أي هل تأخذ بعين الإعتبار مصلحة فئات المواطنين جميعهم أم تأتي نتيجة ضغوط دول أخرى إقليمية أو عالمية ؟
لقد حاولت الدول الصناعية وضع أسس محددة لتسهيل التجارة العالمية . بدأت بإتفاقية الجات GATT والتي تم توقيعها في الأول من يناير 1948 في الأورغواري من 24 دولة منها دولتان عربيتان هما ، لبنان وسوريا . تحولت إتفاقية الجات وبعد تعديلات عديدة عليها ، فى الأول من يناير 1995 إلى منظمة التجارة العالمية ، إحدى منظمات الأمم المتحدة وبلغ عدد الدول المنضمة تحتها 160 دولة في منتصف 2014 . كانت الغاية من تأسيس هذه المنظمة هو تسهيل التجارة بين أعضائها ومنع أو التخفيف من الرسوم الجمركية المفروضة أو الإجراءات الإدارية المعرقلة أو المواصفات المغالى بها . لكن في الواقع انحصرت إتفاقيات التبادل التجاري الحر في المنتجات الصناعية وإستثنت المنتجات الزراعية والغذائية في إتفاقيات التبادل التجاري الحر وذلك بسبب تعّنت الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربي بعدم توقيع إتفاقيات التبادل التجاري الحر لهذه المنتجات متزرعة بذرائع واهية . ولم يقف تصرف الدول الصناعية عند هذا الحد بل تعداه إلى وضع مواصفات مغالى بها للصناعات المستوردة والذهاب إلى أبعد من ذلك أي إلى فرض رسوم جمركية على مستوردات محددة كلما شعرت أن هذه المستوردات تهدد المصانع المحلية بالمنافسة القوية .
يستنتج من ذلك أن الدول الصناعية الكبرى التي نادت بإنشاء منظمة التجارة العالمية إنما فعلت ذلك بغية غزو الأسواق العالمية والحد من قدرة الدول المستوردة على إنشاء مصانع تنافس منتجاتها المستوردة منها . وأخيراً لجأت الدول الصناعية إلى دعم التصدير لبعض منتجاتها فبلغت أرقام الدعم 55 مليار يورو في الإتحاد الأوربي وما يزيد عن 180 مليار دولار في الولايات المتحدة. وهذا الدعم هو مخالفة واضحة وصريحه لإتفاقيات التبادل التجاري الحر لمنظمة التجارة العالمية .
مشكلة دول العالم الثالث أنها لا تستطيع مواجهة الدول الصناعية ، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي ، لأن هذه الدول توفر لها فرصة الحصول علىقروض من البنك الدولي كما توفر لها مساعدات مالية بصفة هبات أو قروض متوسطة وطويلة الأجل فتراهاتزعن لشروط هذه الدول الصناعية.وإن عاندت فإجراءات الحصار الإقتصادي جاهزة وإن تمادت فالإجراءات العسكرية جاهزة هي أيضاً بعد تهيئة الرأى العالمي بأن هذه الدول هي دول مارقة لابد من معاقبتها .
من هنا يمكن الإستنتاج بأن السياسة الإقتصادية في الدول الصناعية الكبرى تبنى على قدرتها لتصدير الفائض من إنتاجها عن حاجيتها المحلية بصورة سلميّة وإلا بصورة إستقوائية والعمل على الحد من قدرة الدول المستوردة من تطوير إنتاجها وخاصة الصناعي منه .
من الواضح أن إعتماد الدول الصناعية الكبرى هكذا سياسة إنما تنبع من قناعتها لمراقبة ثلاثة مؤشرات تسعى دائماً لضبطها:
أولها الحد من إرتفاع نسبة البطالة في حدود دنيا وهي غالباً لا تتجاوز الخمسة بالماية .
وثانيها ضبط مستوى التضخم والذي تسعى بألا يتعدى الإثنين بالماية سنوياً.
وثالثها مستوى الفائض في ميزانها التجاري بحيث يبقى لصالحها .
فما هي الوسائل المباحة أمام دول العالم الثالث والدول التي في طور النمو كي تتفلت من إجراءات الدول الصناعية .
يبدو لي أن على هذه الدول أن تتضامن وتعتمد سياسة حمائية . تتطلب هذه السياسات الإنسحاب من منظمة التجارة العالمية وإلغاء إتفاقيات التبادل التجاري الحر التي أبرمتها ، ثم عليها أن تعتمد وضع رسوم جمركية على مستورداتها التى تنتجها أو يمكن لها إنتاجها محلياً بحيث تحفز القطاع الخاص على الإستثمار في هذه المجالات . إنّ مثل هذه السياسة تطور قدرة هذه الدول على إدخال تقنيات الإنتاج المحلي وتوفّر فرص عمل للمواطنين فيصبح بمقدورها أن تكتفي ذاتياً أقله في توفيرغذاء شعوبها وتوفير حاجاتها الأساسية كالأدوية والألبسة وخلافه .
لقد آن الأوان كي تعود الدول الضعيفة والتي في طور النمو إلى التضامن كي تحمي مصالح شعوبها . إن سياسة الحماية هي سياسة سلميّة غير عدائية لا تعطي الدول الصناعية المتسلطة الذرائع الكافية لمعاداتها .