أنا ممّن يتابعون بإهتمام إطلالاتكم التلفزيونية وإني دائماً معجب بمواقفكم ووضوح رؤياكم وتحليلاتكم.
أشير إلى الإطلالة الأخيرة لسماحتكم بمناسبة الذكرى الواحد والثلاثين لتأسيس جهاد البناء وبالتحديد إلى إشارتكم للموازنة وتلميحكم إلى عدم جدوى وضع رسوم جمركية على المستوردات كون خطوة كهذه سوف تزيد من كلفة المعيشة.
نظراً لأنّ تخوُّفكم من وضع رسوم جمركية على المستوردات يمثل المفهوم العام لهكذا إجراء، رأيت من واجبي أن أشرح أهمية وضرورة وضع رسوم جمركية مرتفعة فقط على كل ما يُنتَج وما يمكن إنتاجه في لبنان من منتجات زراعية أو صناعية، وهو خلاف ما يعتقد معظم اللبنانيين من عامة الشعب ومن المسؤولين.
يعاني لبنان إقتصادياً من نسبة بطالة مرتفعة تقدّر بـ 30 – 35% أي 1,2 مليون مواطن. كما يعاني لبنان من هجرة ما لا تقل عن 25,000 متخرج جامعي سنوياً يغادرون لبنان بسبب ندرة فرص العمل. تقدر خسارة هجرتهم بـ 5,5 مليار دولار سنوياً بإعتبار أن كلفة تنشئة وتعليم كل متخرّج من ولادته إلى تخرّجه هي نصف مليون دولار أي 12,5 مليار دولار بينما توريداتهم السنوية لا تتعدى 7 مليارات دولار، ناهيك عن خسارة إنتاجيّتهم وتطوير بلدهم فيما لو قدِّر لهم البقاء في الوطن.
من الواضح أنّ القطاعات الخدماتية من مصارف وتعليم وطبابة وخدمات متعدّدة لدى الدولة والقطاع الخاص متخمة بالموظفين وبالتالي لن تستطيع أن تسوعب العاطلين عن العمل والمهاجرين.
لو نظرنا إلى الميزان التجاري لوجدنا أنّ العجز يبلغ 17 مليار دولار سنوياً أي أنّ المستوردات تفوق الصادرات بهذا المبلغ، كما نجد أنّ هذا العجز آخذٌ بالإزدياد على مدى السنين العشر السابقة.
من هنا نرى أنّ الحل الوحيد للتخفيض من مشكلة البطالة المستعصية ومن هجرة الكفاءات والرساميل هو في تفعيل القطاعات الإنتاجية زراعيةَ كانت أم صناعية كي تستوعب جزءاً كبيراً منهم سنة بعد سنة.
لكنّ التفعيل المنشود يتطلّب إستثماراً في القطاعين المذكورين. والإستثمار مطلوب من مستثمرين وليس من الدولة. والمستثمرون لن يُقدِموا على الإستثمار في أي منتج ما لم يتأكد لهم جدوى هذا الإستثمار أي عدم منافسة منتجات أقل قيمة من كلفة إنتاجهم. وهذا الأمر لن يحصل إلاّ بالحماية الجمركية المؤثرة الفاعلة والتي قد تصل إلى 50% أو أكثر لبعض المنتجات المستورَدة مع إعتماد الحد الأدنى للإستيفاء الجمركي لكل مادة على حده، بحيث يستحيل التلاعب في مستندات المستوردات وقيمة هذه المستوردات تهرّباً من الضريبة الجمركية المرتفعة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي تدعم إنتاجها وخاصةً الزراعي منه دعماً مادياً مباشراً. وهنالك دول عديدة منها الصين وتركيا تدعم تصدير منتجاتها.
إنّ مثل هذا الإجراء سيوفّر للدولة دخلاً لا يقل عن 2,5 مليار دولار سنوياً يتناقص تدريجياً مع إحلال صناعات وزراعات محلّية يحلّ محلّها ضرائب الدخل على هذه الإستثمارات والمنشآت والتوظيفات. هكذا دخل بحد ذاته يصحّح العجز في موازنة الدولة دون إرهاق فئات الشعب المختلفة.
من الطبيعي أنّ وضع الرسوم الجمركية سوف يزيد من كلفة المعيشة وهو أمر يمكن أن يحدث في حالة إرتفاع قيمة المواد المَثيلة المستوردة من مصادرها. ففي كِلتَي الحالتين على الدولة تصحيح الأجور بدءاً من الحد الأدنى كما حدث عام 2012 حيث زيد الحد الأدنى للأجور من 500,000 ل.ل. إلى 675,000 ل.ل. عندما حلّت الأزمة الإقتصادية العالمية المشهورة بدءاً من 2008 وإرتفعت معها أسعار السلع الإستهلاكية عالمياً.
إنّ الرخص والغلاء أمران نسبيّان وليسا مطلقَين. إنهما نسبة لدخل الفرد فإذا كان عاطلاً عن العمل فسوف تكون قيمة السلع التي يحتاج إليها مرتفعة مهما كانت وحتى مستحيلة المنال. أمّا إذا توفّر الدخل المناسب فبإمكانه التوفيق بين دخله ومصروفه.
لن أذهب بعيداً في تحليل أهمية إنتقال لبنان من بلدٍ ريعي إلى بلدٍ منتج صناعي. وهذا التطوّر يأتي كالتعليم تدريجياً عن طريق الممارسة والتحسين والإرتقاء. فإن لم نبدأ فلن نتطوّر ونرتقي.
من المؤسف أنّ لبنان كبّل ذاته بإتفاقيات تجارة حرة مع دول ومنظمات ألزمته على تخفيض معدّل الرسوم الجمركية على المستوردات إلى ما دون الـ 5% يتمّ تحصيل نصفها فعلياً بسبب الإتفاقات المذكورة. إنّ الدول الصناعية التي فرضت على الدول ما دون النامية كلبنان بفتح أبوابها وإعتمدت العولمة كمدخل للإستعمار الإقتصادي بدأت مؤخراً تلجأ للحماية الجمركية بعد أن إعتمدت المواصفات القياسية المبالغ فيها عندما شعرت بأنّ الدول النامية آخذة بتطوير ذاتها وتصدير منتجات بأسعار تنافسية. أي أنّ مُبتدعي العمولة يخشون من إنعكاسها على إقتصادهم فلجأوا مؤخراً إلى إلغاء العمل بالإتفاقات المبرمة حمايةً لمنتجيهم.
فلِما لا يلجأ لبنان إلى تجميد العمل بإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ الثلاث، اليورو متوسطية والإتحاد الأوروبي وإتفاقية المنطقة العربية الحرة الكبرى، ولمدة لا تقل عن 15 عاماًحتىيتمكنمنتصحيحوضعهالإقتصاديويعالجمشكلةالبطالةوهجرةالكفاءات؟
وها هي الولايات المتحدة الأميركية تضرب عرض الحائط بإتفاقياتها مع دول أوروبية ومع الصين وجارتها كندا والمكسيك.
على الحكومة أن تعي أنها مسؤولة عن تخفيض البطالة وتخفيض هجرة الكفاءات وإلاّ فإنها حكومة لا تخدم شعبها بل تخدم الدول الأخرى وتنصاع لإملاءاتها على حساب شعبها.
حفظكم الله،
موسى فريجي
mfreiji@tanmia.com.lb
www.musafreiji.com
بيروت، في 1/8/2019