رسالاتُكم المتتالية منذ تبَوُّئِكم منصب وزير الصناعة في حكومة المصلحة الوطنية نَسَفَت كل المعايير التي صنعت السياسة الإقتصادية في لبنان منذ 1992 حتى يومنا هذا. رسالاتكم المتتالية عَرَّت تلك المعايير والسياسات الإقتصادية تعرِية ما بعدها من تعرية.
أنتم على عِلم كم جاهَدَت قِلّة قليلة من المَعنِيّين بالشأن الإقتصادي، وأنا أحدُهم، منذ 1992 لإيقاف الوزراء المعنِيّين في الشان الإقتصادي من الإنجرار الى تبنّي سياسة الإنفتاح المُفرِط دون جدوى. فكل رؤساء الوزارات ووزراء المالية والإقتصاد الذين تعاقبوا على وضع وإقرار سياسة الإنفتاح المُفرِط فَعَلوا ذلك لا لِقناعةٍ منهم بجدوى هذه السياسة بل بسبب جهلِهِم وقلّة دِرايَتِهِم وبسبب إنجرارِهم وراء إلحاح البعثات الدبلوماسيّة الغربيّة لِفتح أسواق لبنان أمام المُنتجات المُستوردة عن طريق تخفيض الرّسوم الجمركيّة لأنّهم يعتبرون أنّ كل فرَنجي برِنجي وأنّ المُدافعين عن حماية الإنتاج الوطني ما هُم إلاّ جهلة لا يَرقوا الى مصاف الخبراء الأوروبيّين والأميركيّين، فلما الإستماع إليهم؟
لقد خفيَ على رؤساء الوزارات ووزراء المالية والإقتصاد منذ 1992 أنّ هؤلاء الخبراء الأوروبيّين والأميركيّين إنّما هم تلامذة الصهيوني المجرم الإقتصادي ميلتون فريدمان أستاذ الإقتصاد بجامعة شيكاغو الذي خّرَّجَ العشرات من المجرِمين الذين توزّعوا على العديد من دول أميركا اللاّتينيّة ودمّروا إقتصادَها وقتلوا وشرَّدوا الآلاف مِمّن قاوم سياسة الإنفتاح المفرط التي بشّروا بها سواء كانوا نقابِيّين أو حِرَفيّين أو مزارِعين أو صناعيّين. ميلتون فريدمان هذا حاول الوصول بأفكارِهِ الى الإتحاد السوفياتي فنجح في إقناع غورباتشوف بتَبنّي سياسة الإنفتاح لكنّ الصين كشفت أمرَه وأعادته الى الولايات المتحدة صِفرَ اليدَين ونجَت من سمومه. أمّا معظم دول أميركا اللاّتينيّة ففاقَت لِنفسِها بعد حين وإنقلبت على كل ما خلَّفه ميلتون فريدمان من سياسات تدميريّة لإقتصادِها وها هي أصبحت متحرِّرَة من الهَيمنة الأميركية. وكي لا أكون ظالماً لأحد من الوزراء المتعاقبين على وزارة الماليّة أستثني منهم الدكتور جورج قرم الذي وإن آمَنَ بحماية الإنتاج الوطني لكنّه تخاذلَ وضَعفَ أمام إصرار رؤساء الوزارات ووزراء الإقتصادوفشل في تحقيق قناعاته ولم يذهب بعيداً في إبقاء الرّسوم الجمركيّة على المستوردات مرتفعة حمايةً للإنتاج الوطني، فكان شاهداً كغيرِه على إقفال الصناعات والتوقُف عن معظم الزراعاتواحدةً تِلوَ الأخرى.
وَثبَتُكُم اليوم يا معالي الوزير هي وثبة مقاومة بإمتياز وهي لا تقلّ أهميّة عن مقاومة العدوان الإسرائيلي المُتمادي. ذلك أنّ الضائقة الإقتصاديّة في لبنان تحتاج الى جرأة وإندفاع وتضحيات. ثِقوا بأنّ توفير فرص العمل عن طريق تحفيز الإستثمارات في القطاعات الإنتاجية صناعية وزراعية هي الحلّ لِمُعضِلة البطالة وهجرة الكفاءات والرّساميل.
لا تصدِّقوا من يقول بأنّ الوضع السياسي والأمني هما العاملان الأكثر تأثيراً على إحجام اللبنانيّين عن الإستثمار. فاللبنانيون يهاجرون الى أصقاع المعمورة الآمنة وغير الآمنة سعياً وراء العمل والكسب غير آبِهين بالمخاطر الجسيمة.
لا تصدِّقوا من يدّعي بأنّ سياسة الإنفتاح ضروريّة لِتحفيز الإبتكار والإبتعاد عن الرّتابة. فالإبتكار لن يأتي من عدم العلم والخبرة وكلاهما يتطلّبان التدرُّج في العمل والمعرفة وتراكُم الخبرات والإنتقال التدريجي من السهل الى الصعب فالأصعب وصولاً الى الإبتكار المنشود.
عندما كنتم وزيراً للزراعة على مدى ثلاث سنوات تّرّدَّدتُم في المواجهة كما تفعلون الآن. آثرتُم الإعتماد على سياسة الدّعم المادي للمُنتجات الزراعيّة إنتاجاً وتصديراً. كانت سياسة خاطئة لأنّها لم تُفِد إلاّ حفنة معروفة من التُّجار المُصدِّرين وإستغلّها تُجّار آخرين بلباس مزارعين. فذهبت أموال الدّعم بعيداً عن جيوب المزارعين المَغلوب على أمرِهم.
أنظُروا حولَكم لِتَرَوا من هم المستفيدون من السياسة الإقتصادية منذ 1992 حتى يومنا هذا. إنّهم أصحاب المصارف الذين جنوا ويجنون معظم أرباحهم من سندات الخزينة التي يتمّ تسديد فوائدها عدّاً ونقداً فيَتراكَم الدَّين العام. إنّهم أصحاب الإحتكارات من مصانع الإسمنت والكابلات الكهربائيّة لأنّهم مَحمِيّون بمنع الإستيراد وليس بوضع رسوم جمركيّة مرتفعة. إنّهم أصحاب الوكالات الحصريّة التي مُنِعَت في معظم بلدان العالم إلاّ في لبنان. إنهم شركاء طيران الشرق الأوسط ألتي أُعطِيَت إمتياز تحديد أسعار تذاكر السفر على شركات الطيران الأخرى التي تحط وتطير من مطار بيروت، الشركاء الذين وقفوا بوجه إعتماد سياسة الأجواء المفتوحة حتى الآن. كل هؤلاء ليسوا مُبتَكِرين ولا مُختَرِعين إنّما مُستَنِدين الى الإمتيازات التي يدفع ثمنها المكلّف اللبناني.
المُضحك المُبكي أنّه كلّما لاحَت في الأفق صَيحَة حول الحالة الإقتصاديّة المأزومة نرى مُمَثِّلي الهيئات الإقتصاديّة يعقدون المؤتمرات والإجتماعات ويُردِّدون ذات الشعارات الجوفاء التي لم تصِل بنا يوماً منذ ربع قرن الى أيّ حلّ يؤدّي الى تحفيز الإستثمار وإستيعاب القِوى العاملة المتعلّمة وإيقاف هجرة الكفاءات والخبرات والرّساميل وترك لبنان يتخبّط وحيدًا. عفّعلى معظم هؤلاء المُمثلين الزمن. جلّهم سايروا المسؤولين لأنّ أجِندَتِهم كانت وصولاً إلى السلطة وليس خدمةًلمنسوبيهِم. لم يتجرّأوا على ذِكر كلمة الحماية الجمركيّة للإنتاج الوطني لأنّ معظمهم تجارًا ومُحتكِرين وأصحاب إمتيازات وليسوا صناعيّين أو مزارعين.
أُذكِّركم يا معالي الوزير بأنّ خمسين بالماية من اللبنانيين يعتاشون من الصّناعة والزراعة ولو أنّ دخلهم القومي لا يتعدّى الرّبع لكنّهم مواطنون مُنتشرون بكل أرجاء لبنان. أُذكِّركم بأنّ كل الدول المصدِّرة الى لبنان تعتمد سياسة الدّعم الماديلإنتاجها ولصادراتها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة الدول الأوروبية والصين وتركيا وبذلك تصِلنا منتجاتها بأقل من كلفة إنتاجها. فهمُّ هذه الدول هو رفاه ومصلحة مواطِنيها على حساب الدول الأخرى. أذكِّرُكُم بأنّ هذه الدول ذاتها تضع المواصفات القياسية التعجيزية لتمنع وصول معظم المنتجات إليها من الدول الأخرى وخاصةً الدول النامية والفقيرة. أُذكِّركم بأنّ مُباحثات منظمة التجارة العالمية بالدوحة قد فشلت ومنذ عقدَين من الزمن في الوصول إلى إتفاقات لِتبادل التجارة الحرّ في المواد الزراعية والغذائية بسبب تَعَنُّت الدول الكبرى.أُذكِّركم بأنّ الولايات المتحدة الأميركية تفرض على الدول العربية بأن تُدخِل في الصناعات المصدرة إليها دون جمارك ما قيمته 11%مدخلات مستوردة من إسرائيل بموجب قانون QUIZ دعمًا لإقتصاد إسرائيل.
معالي الوزير،
إنني على يقين بأنّ تصدّيكُم للسياسة الإقتصادية السيّئة تجاه القطاعات الإنتاجية لن يكون سهلاً. فالعقم والمصالح الخاصة والوصولية والإحتماء وراء المناصب لحماية المنتفعين كلّها مُستَشرِية في لبنان الأمر الذي سيدفع بهؤلاء جميعاً لِعرقلة جهودِكم في تصويب البوصلة. إنّ الوسيلة الوحيدة لتصحيح الوضع الإقتصادي في لبنان هي من خلال:
1) إعادة الرسوم الجمركية إلى مستوياتها التي كانت في عام 1997.
2) إلغاء كلإتفاقات التبادل التجاري الحرّ مع الدول الأخرى.
3) وقف العمل بإتفاقية المنطقة الحرّة العربية.
4) وقف العمل بإتفاقية اليورو متوسطية.
5) التوقف عن الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية.
6) تعديل قانون حماية المستهلك وقانون حماية الإنتاج الوطني وكلاهما وُضِعا خدمةً لتسهيل الإستيراد وعرقلة الإنتاج الوطني.
7) إيقاف كل التشريعات المُرسَلة من وزارة الإقتصاد الى مجلس النواب وإعادة دراستها بدقة مُتناهية.
تحتاج التدابير أعلاه ثورة حقيقية كالتي حصلت في دول أميركااللاتينيّة ضد التشريعات التي فرضها ميلتون فريدمان الصهيوني. قد تكون وسيلتكم الفُضلى هي إقناع وزير المالية الحالي في تبنّي وجهة النظر أعلاه بإعادة العمل بالرّسوم الجمركية التي كانت قبل عام 1997 ورَفع توصِية مُلِحَّة ومُدَوِّيَة لمجلس الوزراء لِتَبَنّيها. وهذه الخطوةكفيلة بوضع حدللعمل بالخطوات الأخرى المقترحة كونها تتسبّب بإيقاف العمل بها تلقائياً.
إنه تحدٍّ كبير لكنّه المُنقذ لإقتصاد لبنان، والمُحفّز للإستثمار في قطاعاته الإنتاجية، والمستوعب لـ 20,000 فرصة عمل سنوياً، وواضع الحد لهجرة الكفاءات والرّساميل، والمهيّء لتوازن حقيقي في مصادر الإقتصاد، والمُعمِّم للعمل في كل المناطق اللبنانية، والمُعمِّم لإستفادة كل اللبنانيين بغض النظر عن إنتماءاتِهم السياسية أو الطائفية أو المذهبية.
أخذ الله بيدِكم وأعانَكُم على كسر الإحتكارات ووضع لبنان على طريق التصنيع والإنتاج.