منذ الإستقلال وحتى اليوم ظلّت مهمّة تدخّل الدولة في أجور العمال والموظفين منوطة بوزارة العمل. فكانت تحدّد الحدّ الأدنى للأجور والزيادات المفروضة على شطور الرواتب التي تزيد عن الحدّ الأدنى. من الطبيعي أنّ القطاع العام كان يتقيّد بهذه الحدود. لكن من المؤكد أنّ جزءاً كبيراً من القطاع الخاص لم يتقيّد بل كان يعتمد على التوافق بين ربّ العمل والعامل أو الموظف برضى الطرفين.
إنّ معظم دول العالم المتقدّمة إقتصادياً تُحدّد الحد الأدنى للأجور وتترك الأجور التي تزيد عن الحد الأدنى لتَوافق ربّ العمل مع العامل. والحجة لديها هي أنّ للعمل سوق إسمه سوق العمل يتأثر بالعرض والطلب فلا يجوز التدخّل في تثبيته لأنّ تثبيته يعني إرغام ربّ العمل على دفع أجرٍ قد لا يستحقه العامل أو قد لا يقدر ربّ العمل تحمّله بينما بالمقابل لا يمكنه إلزام العامل بالعمل بذات الأجر المفروض على ربّ العمل لأنّ للعامل الحق بترك العمل حينما يشاء.
تنطلق فكرة تحديد الحد الأدنى للأجر من مفهوم الحد من الفقر ومنع إستغلال الفقراء. وهذان سببان وجيهان يبرّران إعتماد الحد الأدنى للأجور بقوانين أو مراسيم. أمّا مبدأ تحديد زيادات للأجور سواء كانت زيادات على الشطور أو نسب مئويّة على الأجر فهي بالواقع تدخُّل في كلفة إنتاجية العامل أو الموظف وبالتالي كلفة الإنتاج للسلع والخدمات خاصةً في سوقٍ مفتوح للمنافسة الحرّة ولبقاء الأفضل.
يدخل في لبنان كل سنة ما يزيد عن خمس وعشرين ألف طالب للعمل جلّهم من حملة الشهادات أي ممّن يتطلّبون أجراً يزيدُ عن الحد الأدنى للأجور. يستوعب القطاع العام من هؤلاء ما يُوازي أو ما يزيد قليلاً جداً عن عدد المُحالين الى التقاعد. أمّا الأكثريّة فعلى القطاع الخاص إستقبالهم وإلاّ فالهجرة المؤقتة أو الدائمة هي سبيلهم.
دافع معظم رؤساء الوزارات ووزراء الماليّة والإقتصاد منذ الإستقلال حتى يومنا هذا عن هجرة الجيل الجديد لأنّه يوفر مصدراً من مصادر الدخل ولو غير المنظور يغطي جزءاً يَسيراً من العجز ويمنع الشلل الإقتصادي. لكن خَفِي عن هؤلاء المسؤولين أنّهم بذلك يشجعون بقاء لبنان بلداً مُستهلِكاً بين الدول ما دون النامية ولن يكون بمقدورِه أن يتطوّر تدريجياً الى دولة نامية ثمّ الى دولة صناعية بغياب الإستثمارات في القطاعات الإنتاجية جنباً الى جنب مع القطاعات الخدماتية.
هجرة الجيل الجديد إذاً هي هجرة قصريّة لعدم توفر فرص العمل لهم. وفرص العمل غير مُتاحة لأنّ القطاع الخاص لا يرى جدوى كافية من الإستثمار وخاصةً في القطاعات الإنتاجيّة زراعيّةً كانت أم صناعيّة. وسبب عدم الجدوى هذه تعود الى المنافسة الحادة التي يُواجهها من المُنتجات الزراعيّة والصناعيّة المستوردة. تعود قدرة المستوردات على منافسة الإنتاج المحلي غالباً لسياسة دعم كلفة إنتاجها بأشكال الدعم المختلفة في بلدان منشأها.
من هنا نرى أنّ حلّ معضلة الأجور تكمن في توفير فرص العمل وليس في فرض أجور لا تتناسب وكلفة الإنتاج أو الخدمات. وتوفير فرص العمل تكمن في الإستثمارات المُتتالية لإستيعاب طالبي العمل. وتشجيع الإستثمار مَنوط بوزارتي الماليّة والإقتصاد.
فعلى وزارة الماليّة أن تُعيد النظر في السياسة الجمركية للمنتجات التي تُنتج أو يمكن أن تنتج في لبنان فتحميها جمركياً. وعلى وزارة الإقتصاد أن تُعيد النظر بكل إتفاقيات التبادل التجاري الحر الثنائيّة منها والجماعية وتوقف التفاوض للإنضمام الى منظمة التجارة العالمية. تجدر الإشارة هنا الى أنّ العجز التجاري في لبنان قد وصل عام 2011 الى 16 مليار دولار حيث قيمة المستوردات قد بلغت 20,158 ملياراً بينما قيمة الصادرات بلغت 4,265 مليار دولار.
من شأن الإجرائين المنوطين بوزارتي المالية والإقتصاد أن يشجّعا تحريك الإستثمارات في لبنان وبالتالي خلق فرص العمل لطالبيها ويُريحا بذلك وزارة العمل لأنّ فرص العمل قد توفرت وباتت علاقة ربّ العمل بالعامل منوطة بالعرض والطلب وليس بالفرض الذي يخلق الخلاف بين الهيئات الإقتصادية والهيئات العُمّالية ويزيد من هذه الهوّة بين مَطالب العمال وقدرة أرباب العمل.