منذ استقلال لبنان وحتّى يومنا هذا، يتحكّم بالشأن الإقتصادي مجموعة مستفيدة قوامها التجّار المستوردين وأصحاب الوكالات الحصرية ومموّليهم من البنوك بالتواطؤ والإستفادات المتبادلة مع وزراء يعيّنهموموظفين في الوزارات المختلفة الذين يوفّرون إجازات وموافقات الإستيراد المطلوبة.
فهؤلاء وقفوا سدًا منيعًا بوجه تحفيز الإستثمار في القطاعات الإنتاجيّة، زراعية أو صناعيّة، واحتكروا تمثيلهم في الهيئات الإقتصاديّة الممثّلة في الغرف التجاريّة والصناعيّة والزراعيّة، وفي جمعيّة التجار، وجمعيّة المصدّرين، وفي المجلس الإقتصادي الإجتماعي وذلك حمايةً لإستمراريّة سياسة ما سُمِّي بالإقتصاد الحرّ وضرورة حصر الإنتاج في لبنان بما يمكن منافسة المستورَد منه أو بما يمكن تصديره.
وقناعةً، أو بالأحرى إنصياعاً وتبعيةً، من رؤساء الوزاراتووزراء الماليّة والإقتصاد والزراعة وحتّى الصناعة بضرورة مجاراة دول عديدة في الإنضواء تحت إتفاقيّات التبادل التجاري مع دول ومجموعات، وقّعوا هكذا إتفاقيّات. وهذه تحتّم إلغاء الرسوم الجمركيّة عن كلّ البضائع المستورَدة من دول هذه المجموعات. كما ذهبت وزارة الإقتصاد إلى مفاوضة منظمة التجارة العالميّة لتكون عضوًا دائمًا فيها. أدّت المفاوضات هذه إلى تخفيض معدّل الرسوم الجمركيّة إلى ما دون الخمسة بالماية. فانصاع لبنان الى هذا المطلب لكنّه بقي عضوًا مراقبًا إلى حين إلغاء الرسوم الجمركيّة كليًا عن بعض المستوردات بعينها بناءً لمطالبة الولايات المتّحدة الأميركيّة.
خفِيَ عن المسؤولين من رؤساء وزارات ووزراء ان معظم الدول أو المجموعات التي وقعتمع لبنان إتفاقيّات تبادل تجاري حرّ تدعم إنتاجها وخاصّةً الزراعي منه وتدعم تصدير منتجاتها المختلفة. وعليه، فإن سعر المنتجات التي تصل إلى لبنان لا يعكس قيمتها الحقيقيّة، وبالتالي فهي تمنع إنتاج مثيلاتها في لبنان كون لبنان غير قادر على دعم إنتاجه المحلّي كي يوازي أسعار السلع المستوردة المدعومة.
أدّت هذه السياسة الى بطالة فاقت الـ40% وهجرة الكفاءات من خريجي جامعات أو عمالة ماهرة. كما خفِي عن محتكري السياسات الإقتصاديّة خسارة لبنان السنويّة التي فاقت الستة مليارات دولار سنويًا بسبب الفارق بين كلفة تربية وتعليم الكفاءات والبالغة نصف مليون دولار لكل مهاجر(من لحظة ولادته الى حين تخرّجه)، الأمر الذي يعني كلفة تساوي 12,5 مليار دولار لهجرة 25,000 مواطن سنويًا مقابل تحويل لا يتعدّى الـ 6,5 مليار. هذا علاوة عن خسارة إنتاجيّتهم في وطنهم وعن خسارة أولادهم الذين غالبًا ما يهاجرون دون رجعة.
والجدير ذكره في تفسير شراسة المدافعين عن سياسة الإقتصاد الحرّ من تجار مستوردين ومصارف هو مقدار الربح المتأتي من الرأسمال الذي يخصّصونه لعمليّات الإستيراد. فالغالبيّة القصوى منهم يدوّر رأسماله المخصص لإستيراد سلعة معيّنة ست مرّات في السنة. فإذا كان الحدّ الأدنى لربح كل دفعة هو 10% فقط، فيكون بذلك ربحه السنوي 60% وهو ربح لا يوازيه أي عمل آخر. من هنا تأتي شراسة المستوردين وأصحاب الوكالات الحصرية في الإبقاء على الإستيراد ومحاربة أي محاولة لحماية المنتجات المحليّة المنتجة أو الممكن إنتاجها في لبنان.
وهكذا يمكن الإستنتاج أنّ مصدر الفساد الأوّل في لبنان هم التجار وأصحاب الوكالات الحصريّة الذين، بسبب أرباحهم العالية، قادرون أن يُفسِدوا المسؤولين من موظفين في مراكز القرار وحتّى وزراء.
فلا فساد بدون فلوس، ولا فلوس بدون أرباح، ولا أرباح مغالًا بها دون إحتكار.