فادي عبود 22 آب 2014
استيقظت صباح اليوم وكنت قد حلمت بحيتان وبيرانا المال حيث هناك حيتان يقضمون قضمة كبيرة وآلاف البيرانا الذين يقضمون قضمات صغيرة، ولكنهم يتسببون ايضا بموت الضحية بسرعة فائقة. وطالعت الجرائد الصادرة، وكالعادة الاجواء بعيدة كل البعد من الاقتصاد والحاجات الاقتصادية، وشعرت بحاجة الى ان ننقل البحث الاقتصادي اخيرا من باب زيادة الضرائب وتمويل السلاسل التي تزيد من خنق المواطن، وكأن لبنان سائر في اتجاه تعميم الفقر بدلا من تعميم البحبوحة. احدهم يجب ان يتكلم على زيادة الانتاج وفرص الانتاج وزيادة الاستثمار لتخفيف الهجرة، لان البلد سيقتصر على الحيتان والبيرانا فقط.
وشعرت بالغياب الرهيب للاقتصاد عن تفكيرنا وخططنا واستراتيجياتنا ومناقشاتنا، حيث تبقى علة هذا البلد وضع الشأن الاقتصادي في اسفل سلم الاولويات. وتذكرت حكومة الرئيس ميقاتي، التي كنت جزءا منها، والتي كانت تضم رجال اعمال واقتصاديين، ورغم ذلك بقي الشأن الاقتصادي في الدرجة الثانية، وبقي التجاذب السياسي المسيطر الاول، وما زال، على كل اعمال الحكومات.
انعكست الازمة الامنية على السياحة والخدمات، وكان يفترض بالقطاع السياحي تأمين الدخل الاساسي للاقتصاد. وعندما تسلمت حقيبة وزارة السياحة عام 2009، جاءت ارقام عام 2010 قياسية بامتياز، اذ تخطى لبنان لأول مرة في تاريخه عتبة المليوني سائح، الا ان الاحداث الامنية لم تسمح بمضاعفة هذا الرقم كما كنا نطمح، اذ بدأ الانخفاص في الاعوام 2011 و2012 و2013 وما زال مستمرا حتى الآن. واتهمت حكومة الرئيس ميقاتي حينذاك بأنها حكومة معادية لدول الخليج. وبعد تأليف الحكومة الجديدة، التي يفترض انها حكومة صديقة للخليج، اتضح ان الاتهامات كانت سياسية محضة، اذ لم تتغير الارقام حتى الآن، وما زال الانخفاض مستمرا، وهو نتيجة طبيعية اذا ما استمر التأزم الامني.
اما الصناعة فكان واقعها مختلفا، فهي القطاع الاكثر ثباتا في وقت الازمات، خصوصا بعد زوال المنافسة مع الصناعة السورية. وكان من المتوقع ان تستفيد الصناعة اللبنانية من ذلك، وهكذا زادت صادراتنا زيادة لابأس بها. الا ان الارقام الصادرة اتت لتثبت عدم قدرة الصناعة اللبنانية على تثبيت موقعها التنافسي، حيث تراجعت قيمة الصادرات الصناعية اللبنانية خلال الاشهر الاربعة الاولى من العام الجاري الى مليار و16 مليون دولار، مقابل مليار و188 مليون دولار خلال الفترة عينها من عام 2013 السابق، ومليار و239 مليون دولار خلال الفترة عينها من عام 2012، اي بانخفاض بلغت نسبته 14,5% مقارنة بعام 2013 و18% مقارنة بعام 2012 على التوالي.
عادة عندما تظهر ارقام كهذه في اي بلد في العالم، ترفع راية الخطر وتعقد جلسة حكومية خاصة لمعالجة النتائج وايجاد الحلول، وخصوصا اننا نتكل على الصناعة لرفع الاقتصاد في ظل تعثر قطاع السياحة والخدمات. ولكن تمر هذه الارقام مرور الكرام، وكأننا تعودنا التردي الاقتصادي كجزء من ثقافتنا الاقتصادية.
هل يعقل اليوم في بلد مثل لبنان، معزول برّياً، ان لا تتخذ اجراءات خفض تكاليف التصدير بحرا؟ وهل يعقل ان تكون كلفة مستوعب 40 قدما لوضعه على ظهر باخرة هو حوالى 800 دولار اميركي، وهذا المبلغ لا يشمل الناولون وهو اعلى سعر في العالم؟ هذا الرقم لا يستفز احدا في ظل صراع الصناعيين على البقاء بالرغم من العزل البري، ولكن لا حياة لمن تنادي! هل يعقل ان طن المواد الاولية البلاستيكية، مثلا، التي كانت تأتي من دول الخليج المشحونة برا كانت تكلفة تخليصه 7 دولارات، اما اليوم فتبلغ كلفة تخليص الطن 70 دولارا عبر مرفأ بيروت؟ وطبعا هذه الارقام لا تستفز احدا!
عندما نرى المزايا التنافسية والتفاضلية للصناعة اللبنانية، ننظر اليها، ولكن لا نحللها ولا نعمل على تطويرها. الم يحن الوقت اليوم لأن تؤمن الحكومة اللبنانية خطا بحريا للشاحنات اللبنانية من خلال باخرة RO-RO تنقل الشاحنات اللبنانية الى مصر مثلا، دون مقابل لتستطيع هذه الشاحنات العبور الى دول الخليج؟ ومن الجدير ذكره ان كلفة الشاحنة القاطرة والمقطورة من دول الخليج واليها مع التأمين هو حوالى الـ 4000$ في كل اتجاه اي ضعف ما كانت عليه.
قصة ابريق الزيت بالنسبة لتكاليف الشحن البحري، والتي ما زلنا نرددها من سنين، لم تتغير على رغم عزل لبنان برا، ومن المفروض ان تكون كلفة وضع مستوعب 40 قدما على ظهر الباخرة ما بين الـ 300 او الـ 350 دولارا، اي اقل من نصف الكلفة المعمول بها اليوم والتي يذهب نصفها سمسرات من هنا وهناك، وهذا المبلغ يجب ان يشمل كلفة الـ FOB التي تتقاضاها شركات الشحن، والتي يجب ان لا تتخطى كلفتها المئة دولار.
يجب ان تعمل الحكومة في ظل الوضع الراهن من العزل البري وانخفاض ارقام الصادرات على ايجاد خط عسكري بالنسبة الى التصدير وتفرض هذا السعر على الجميع، وتمنع اصحاب النفوذ من استغلال التصدير مهما كلف الامر. فالتصدير اليوم هو بمثابة الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد اللبناني، التصدير مقاومة، التصدير مقدس، التصدير مرتبط بوجودنا، ويحق للمصدر ما لا يحق لغيره اليوم. هذه مبادئ يجب ان تشكل قناعة للجميع اليوم.
اما بالنسبة الى الاجراءات الضريبية، من ضريبة دخل وغيرها، فنذكّر الحكومة بأن كلفة الطاقة على الصناعة اللبنانية هي ما بين 7 الى 10 اضعاف الكلفة في الخليج العربي ومصر. ولهذا السبب يجب اعفاء الصادرات من كل الضرائب والرسوم، والامل الوحيد لتحقيق اي نمو اقتصادي لا يتحقق من دون تخطيط، وهذا لا يمكن ان يتحقق بالاتكال على السياحة والخدمات في ظل الظروف الراهنة، بل على الصادرات الزراعية والصناعية.
فمثلا اوقفت روسيا استيراد الفواكه والخضر من اوروبا، فأين لبنان من انتزاع حصة صغيرة من السوق الروسية اليوم؟ اين تسهيلات تصدير الفواكه والخضر من مطار بيروت؟ فليزر الوزير المسؤول عنابر التبريد في مطار بيروت وير بنفسه، ولن ازيد على ذلك! وما يصح بالنسبة الى المرفأ حول المصاريف الجانبية يصح ايضا على المطار.
طرحت هذه المواضيع بالحاح حين كنت وزيرا للسياحة، علما انها خارج صلاحياتي. اما اليوم فالوضع لا يتحمل وباتت القضية قصة حياة او موت، ففي ظل خطر الداعشية، وازمة اقتصادية ادت الى هجرة اكثر من 50% من خريجي جامعاتنا، اتوجه بصرخة وكتاب مفتوح الى دولة الرئيس سلام ووزراء المال والصناعة والزراعة والاقتصاد بعقد جلسة خاصة واقرار تسهيلات للتصدير من لبنان وتأمين الدعم الكامل للمصدرين. فالوضع لم يعد يحتمل. فكل ليرة تستثمر في ازالة العوائق عن الصادرات، يكون دخلها على البلد اضعافا واضعافا.
فادي عبود وزير سابق