توطئة
منذ ما يزيد عن تسعة سنوات ولبنان يسعى للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية ويفاوض الشركاء/ الدول المنضمة على مستويات الرسوم الجمركية المعمول بها في لبنان على السلع المستوردة. وقد إستعان بالمعونة الأميركية USAID في تمويل مجموعة العمل التي تعد لبنان للإنضمام والتي عملت على وضع القوانين والتشريعات اللازمة توطئة لذلك.
مع إن جملة من القوانين قد تم إقرارها من مجلس الوزراء ومجلس النواب إلاّ أن هنالك بضعة قوانين ما زالت بإنتظار ذلك. كما ان بعض الدول/ الشركاء وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تضغط على المفاوض اللبناني لتخفيض الرسوم الجمركية على سلع عديدة كي توافق على إنضمام لبنان نهائياً. والجدير ذكره أن إنضمام لبنان مرتبط بموافقة كل الدول الأعضاء دون معارضة أحد منهم. ومع أن لبنان كان قد وقّع إتفاقية الغات ( الإتفاقية العامة للتعرفات والتجارة) عام 1947 وساهم في وضع أنظمتها لكنه لم يتقدم بطلب الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية إلاّ عام 1999 أي بعد خمس سنوات من إنشائها كإحدى منظمات الأمم المتحدة منهية بذلك إتفاقية الغات.
منشأ فكرة إنشاء منظمة التجارة العالمية
أطلقت الدول الغربية الصناعية فكرة تحرير التجارة بين دول العالم واستهوت الفكرة عديد من الدول التي كانت تؤمن بالإقتصاد المنفتح في مقابل الإقتصاد الموجّه التي كانت تعتنقه الدول الشيوعية والإشتراكية. كان ذلك عام 1947 لدى تأسيس " الإتفاقية العامة للتعرفات والتجارة (غات GATT ) " هدفت هذه الإتفاقية إلى تنظيم التجارة بين الدول الأعضاء والتخفيف من الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع المتبادلة بينها. لكن مقدار نجاح تطبيق هذه المعايير أخذ وقتاً قارب الخمسين سنة كانت كل الدول خلالها دون إستثناء تعتمد سياسات إقتصادية تتوافق مع مصالح مواطنيها ومنتجيها. وعليه فإن تحرير التجارة كما رُسم له ظلّ متأرجحاً بين النجاح والفشل إلى أن تبلورت فكرة إنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1994 كإحدى منظمات الأمم المتحدة بحيث يتم إلزام الإتفاقات المعقودة بين الدول المنضوية وعددها 125 دولة والتي قد تنضم لاحقاً.
تطبيق إتفاقات المنظمة
بالرغم من مرور خمسة عشر سنة على تأسيس منظمة التجارة العالمية فأن تنفيذ الإتفاقات المبرمة بين الشركاء الأعضاء إعتراه كثير من التشوهات للأسباب التالية: 1. كانت معظم الدول الصناعية والمتطورة تنطلق في سياسة الإستيراد أو التصدير من مصلحة مواطنيها ومصلحة إقتصادها ككل. فهي لجأت إلى مخالفات بعضها مفضوح لا لُبس فيه وُجّلها متخففّ وراء إعتبارات المواصفات القياسية والنوعية والسلامة وغيرها. 2. تنبهت هذه الدول إلى أهمية تنويع مصادر الإنتاج والعمل وتصدّت لكل ما يمكن أن يخلّ بهذه القاعدة حتى ولو كلن مخالفاً للإتفاقات المبرمة. 3. لجأت هذه الدول لوضع رسوم جمركية مرتفعة وبصورة مفاجئة على بعض المستوردات الصناعية التي كانت تهدد قطاعاً صناعياً معيّناً. 4. لجأت إلى دعم صادرات عديد من المنتجات التي كانت تشكل فائضاً كي تساعد المنتجين على التخلص منها بصورة أيسر. 5. تمنعت عن توقيع إتفاقية تبادل المنتجات الزراعية حتى يومنا هذا منعاً لدخول هذه المنتجات إلى بلدانها من الدول الفقيرة والتي في طور النمو والتي غالياً ما لا يوجد لديها ما تصدره غير المنتجات الزراعية. 6. ذهبت هذه الدول إلى أبعد من ذلك حيال الإنتاج الزراعي والصناعات الغذائية. فهي دعمت المزارعين بصورة مباشرة. ففي الولايات المتحدة وصلت قيمة دعم المنتجات الزراعية 180 مليار دولار سنوياً وفي أوروبا وصل الدعم إلى 50 مليار يورو سنوياً. هذا عدا الدعم الحاصل مؤخراً لإنتاج الطاقة المتجددة من المنتجات الزراعية. تبرر الدول الصناعية والمتطورة دعم المنتجات الزراعية لإعتبارات تتعلق بالأمن الغذائي والمحافظة على البيئة والمحافظة على الريف وعلى سلامة الغذاء لمواطينيها وفوق هذا وذاك للمحافظة على مستوى لائق للمزارعين لا يقل عن مستوى معيشة المهنيين والصناعيين والتّجار في أوروبا.
كيف تقرر الدول الإنضمام للمنظمة
لا شك ان قرار الدول للإنضمام إلى المنظمة يجب أن ينطلق من المصلحة القومية الإقتصادية لكل دولة. فعدم إنضمامها لا يعني أنها معزولة عن العالم أو أنها لا تستطيع أن تستورد ما تحتاج إليه أو تصدّر ما يمكن تصديره. لكن الميزات التي قد تتمتع بها في حالة إنضمامها تنحصر في تحسين قدرتها على تصدير منتجاتها إلى دول أخرى عن طريق تخفيف الرسوم الجمركية على هذه المنتجات لدى دول المقصد وكذلك التخفيف من الإجراءات المعيقة لإستيرادها. فالدولة المنضوية تستطيع أيضاً أن تقاضي الدول المستوردة في حالة إتخذت الأخيرة إجراءات معرقلة لدخول منتجات الأولى أو وضعت رسوماً جمركية حمائية تفوق تلك المتفق عليها بين الدول الأعضاء. أمّا موضوع حاجات الدول لإستيراد ما ترغب فهي لا تتأثر بدخولها للمنظمة.
من هنا يتضّح أن قرار الدول للدخول في المنظمة يرتبط في حجم الفائض من إنتاجها من سلع مختلفة عليها تصديره كي تحافظ على إقتصادها أي تحافظ على الإستثمارات وعلى الوظائف للعاملين في هذه الإستثمارات.
في الواقع أن الدول الصناعية المتقدمة التي سعت لإنشاء منظمة التجارة العالمية كانت تخطّط بذلك لتسهيل وتنظيم تصدير منتجاتها للدول الأخرى أكثر من تخطيطها لفتح باب الإستيراد إليها. فقد عمدت هذه الدول التي نادت بإنشاء المنظمة إلى وضع المواصفات القياسية وأخذت ترفع من سقف هذه المواصفات كي تخفف من هجوم المنتجات المستوردة الأقل كلفة في البلدان الأخرى المصّدرة. وهي إمتننعت، كما أسلفنا إلى عدم توقيع إتفاقية تبادل المنتجات الزراعية حماية لمزارعيها, وفي معظم هذه الحالات إنها أخلّت بمقررات وأنظمة وإتفاقيات المنظمة غير عابئة بنتائج هذا الإخلال.
قدرة لبنان على زيادة التصدير
من المعروف جداً أن كلفة انتاج المنتجات الصناعية والزراعية هي عموماً مرتفعة في لبنان مقارنة مع عديد من الدول الأخرى وخاصة دول جنوب شرق أسيا وبعض الدولة العربية كمصر وسوريا. ويعود ذلك إلى إرتفاع كلفة مدخلات مسؤوليتها تقع على الدولة كالكهرباء والمحروقات والحد الأدنى للأجور ورسوم الضمان الإجتماعي والقيمة المضافة والرشوة المستشرية لدى موظفي الدولة وأخرى كأجور العمالة وصغر السوق وصغر المنشآت المنتجة وخاصة صغر الرقعة الزراعية.
بلغ حجم صادرات لبنان* عام 2007 فقط 2.8 مليار دولار مقارنة مع حجم مستوردات بلغ 11.8 مليار دولار. لو تفحصنا مليّاً نوع الصادرات لوجدنا أن المجوهرات بلغت 17% وهي تساوي في قيمتها المستوردات من المعادن الثمينة أي 485 مليون دولار. يلي المجوهرات المفاعلات والمراجل 8% ثم الآت كهربائية 8% ثم الحديد وفي معظمه السكراب 6% ومصنعات النحاس 4% والمنتجات الورقية والكرتونية 4% واللّدائن 4% ثم كل من الأسمنت والأسمدة والمصنوعات الحديدية والألمونيوم والأثاث 3% وأخيراً كل كل من الفاكهة ومحضرات الفاكهة والمشروبات الكحولية ومنتجات كيماوية وعطور ومنتجات دور النشر والألبسة 2%.
يتضح من هذه اللاّئحة، وفي ظل كلفة الإنتاج المرتفعة، بأنه يصعب على لبنان زيادة حجم صادراته بشكل ملموس بالرغم من تمتعه بإتفاقية اليورو متوسطية وإتفاقية التجارية الحرة العربية وكلاهما تعفي صادراته للدول الأوروبية والعربية من أية رسوم جمركية.
تحليل مستوردات لبنان وإمكانية تخفيضها*
قلنا إن مستوردات لبنان عام 2007 بلغت 11.8 مليار دولار أي أكثر من أربعة أضعاف قيمة صادراته. يأتي الوقود في طليعتها 22 % يليه السيارات 8% ثم المفاعلات والمراجل 7% ثم الأدوية 5% والأجهزة الكهربائية 5% ثم المعادن الثمينة 4% والحديد 4% واللّدائن 3% ثم كل من الألبان والحبوب والورق 2%. في محاولة لتبيان المواد التي يمكن إنتاجها في لبنان بصورة سريعة تقريباً سعياً لزيادة الإستثمار ولتوفير فرص عمل للبنانيين تبيّن أن المواد الواردة في الفصول التعريفية التالية هي القابلة لمثل هذه المحاولة:
الفصل الجمركي نوع المنتج قيمة مستوردات 2007 بملايين الدولارات تقدير قيمة الإنتاج المحلي الممكن منها بملايين الدولارات 4 ألبان ومنتجاتها 213 170 7 خضار 120 100 8 فاكهة 69 50 10 حبوب 223 150 16 محضرات لحوم وأسماك 67 50 17 سكر ومصنوعاتها 85 50 18 الكاكاو ومحضراته 51 30 19 محضرات حبوب ودقيق 91 80 20 محضرات خضر وثمار وفواكه 51 40 21 محضرات غذائية متنوعة 94 80 22 مشروبات كحولية 136 50 25 اسمنت وملح وكبريت 77 50 30 منتجات الصيدلة 608 500 34 صابون ومحضرات غسيل 81 60 39 لدائن ومصنوعاتها 391 200 57 سّجاد وأغطية أرضية 15 10 58 نسج ومطرزات 21 15 60 أقمشة مصنّرة 22 15 61 البسة مصنّرة 111 100 62 البسة غير مُصّنرة 174 100 63 أصناف أخرى نسيجية 23 15 64 أحذية 73 50 69 منتجات خزفية 81 60 70 زجاج ومصنوعاته 82 60 73 مصنوعات من حديد صب 130 100 74 نحاس ومصنوعاته 92 60 76 المونيوم ومصنوعاته 119 80 82 عدد وأدوات من معدن 31 20 83 أصناف متنوعة من معدن 51 40 85 الآت وأجهزة كهربائية 580 300 96 مصنوعات متنوعة 34 20 98 الأثاث والأدوات المنزلية 4 3 4000 2708
تشكل قيمة المنتجات الممكن إنتاجها في لبنان للإحلال محل بعض المستوردات 2.7 مليار دولار من أصل 4 مليارات أي70% تقريباً من ذات المنتجات أو 23 % من إجمالي المستوردات.
تحتاج هذه المنتجات إستثمارات لإنتاجها تقدّر بأربعة مليارات دولار ويمكنها توفير ثلاثين ألف فرصة عمل جديدة.
شروط تحفيز الإستثمار وتوفير فرص العمل
يصعب التوصل إلى التصّور أعلاه أي الولوج بالإستثمارات الكبيرة إلاّ بإعتماد سياسة حمائية جمركية فاعلة على المنتجات المستهدف إنتاجها في لبنان على أن يتم هذا الإجراء بقانون ثابت لمدة لا تقل عن عشر سنوات تعطي المستثمر الطمأنينة بدوام هذه الحماية فترة زمنية مقبولة .
سوف يقال بأن مثل هذه السياسة سترفع من قيمة المواد المنتجة للمستهلك اللبناني. هذا صحيح إلى حدّ ما. لكن لا بأس في زيادة الأجور لتغطية هذه الزيادة. المهمّ في الموضوع أن توصلنا هذه السياسة إلى الغايتين التاليتين:
1. تحفيز الإستثمار وإيجاد فرص التطوير والإبداع ونقل لبنان من بلد في طور النمو إلى بلد نام ثم إلى بلد متطور. 2. توفير فرص للعمل وخاصة للعائدين من بلدان الإغتراب وأفواج المتخرّجين من المعاهد والجامعات. يأتي توفير فرص العمل وتخفيف البطالة قبل كلفة المعيشة لأنه ما معنى كلفة معيشة منخفضة لأناس لا عمل لهم. ثم أن إرتفاع وإنخفاض كلفة المعيشة لا يرتبط بأسعار المنتجات الإستهلاكية فحسب بل يتعداه ليطال الرسوم والكهرباء والمحروقات ورسم القيمة المضافة وكلفة الإتصالات والمواصلات وغيرها والتي جلّها تضعها الدولة وتجني منها دخلاً تحتاج إليه.
الخلاصة
على لبنان ان يتقدم للإنضمام من منظمة التجارة العالمية بتعرفات جمركية مرتفعة على المنتجات التي يتم إنتاجها وتلك التي يمكن أن يتم إنتاجها في لبنان حماية لإنتاجه الوطني وتخفيفاً لحجم الإستيراد وسعياً لإيجاد فرص للإستثمار والعمل فيه. أن تشبث لبنان بجمارك مرتفعة لمنتجات صناعية وزراعية محددة يجب الاّ يثير حفيظة الدول الشركاء في المنظمة خاصة وأن تكاليف لبنان المرتفعة تجعله غير قادر على تصدير الكثير وبالتالي تهديد المنتجات المماثلة لدى هذه الدول. والحماية الجمركية إجراء مقبول لدى المنظمة وخاصة للدول الفقيرة ودون النامية كلبنان. وإذا رفضت الدول الأعضاء دخول لبنان بهذه الشروط فعلى لبنان أن يؤجل إنضمامه للمنظمة لأن خسارته جراء بقائه خارجها ليست بذي بال في ظل حجم الصادرات المتدني وغير القابل للزيادة في القريب المنظور. بينما في المقابل أن دخوله بتعرفات جمركية متدنية سيزيد من الهوّة بين مستورداته وصادراته عّما هي عليه ويُروّع المستثمرين ويزيد من البطالة ومن هجرة الكفاءات التي نعوّل عليها الآمال لبناء الوطن واقتصاده.
* الجمارك اللبنانية www.customs.gov.lb
** الأمين العام للتجمع الوطني للإصلاح الإقتصادي-لبنان