قطاع الصناعات الغذائية في لبنان والتقيد بالمواصفات
مقدمة
خلال ورشة العمل حول الدستور الغذائي إنما نحن مدعوون لبحث كافة جوانب تطبيق هذا الدستور العالمي في لبنان وبشكل خاص أحداث لجنة وطنية للدستور الغذائي في لبنان كي تشرف على تنفيذ توصيات ومقررات هيئة الدستور الغذائي .
تأسست هيئة الدستور الغذائي عام 1963 على يد منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية التابعتين للأمم المتحدة. مهمة الهيئة هي تطوير المواصفات القياسية للأغذية ووضع التوصيات والقواعد بموجب "برنامج المقاييس الغذائية المشترك بين المنظمتين ".
إن أهم غايات البرنامج هي :
1. حماية صحة المستهلكين . 2. ضمان مزاولة التجارة العادلة للمواد الغذائية . 3. تشجيع التنسيق بين كافة معدي مواصفات المواد الغذائية المعتمدة من الهيئات الحكومية والأهلية .
لن أتطرق إلى الغاية الثالثة وهي مهمة تقع على الهيئات الحكومية في كافة الدول حتى تصل إلى التنسيق المرتقب. لكني أسارع إلى التأكيد على أن قطاع الصناعات الغذائية معني إلى درجة قصوى بالغاية الأولى وهي "حماية صحة المستهلكين". فلا أظنن أن أي عاقل ينتج الغذاء يمكنه أن يتصرف عن قصد وسابق تصميم بطريقة تضر بصحة المستهلك. وعليه فأن قطاع الصناعات الغذائية يعي دوره الهام بهذا الشأن ويعلن استعداده الكامل للعمل مع الهيئات الحكومية التي تعنى بحماية صحة الإنسان .
أما الغاية الثانية وهي "ضمان مزاولة التجارة العادلة للمواد الغذائية" فسوف تكون موضوع عرضي .
مستقبل الصناعات الغذائية في لبنان
إذا كنا ننكب اليوم لبحث تقيد الصناعات الغذائية في لبنان بالدستور الغذائي دعوني أولاً أطرح موضوع مستقبل هذه الصناعات حتى يتبين لنا إمكانية ديمومتها وبالتالي تقيدها بالمواصفات .
تعاني الصناعات الغذائية في لبنان ومنذ عام 1990 من عدة مشكلات شلت بمجموعها قدرتها على المنافسة وبالتالي قدرتها على التطور. أهم هذه المشكلات هي التالية :
أولاً : مشكلة التكاليف المرتفعة لن أغالي إذا قلت أن عناصر تكاليف الإنتاج في لبنان أصبحت أعلى من أي بلد عربي آخر. وهي معظمها أن لم يكن كلها مفروضة من الحكومة اللبنانية وتتمثل بالتكاليف التالية : • كلفة الطاقة الكهربائية تزيد عن ضعف كلفتها للمنتجين في مصر وسوريا والسعودية والإمارات العربية المتحدة . • كلفة المحروقات تصل إلى ثمانية أضعاف كلفتها في مصر والسعودية والإمارات وضعف كلفتها في سوريا . • اليد العاملة وهي أربعة أضعاف ما هي في مصر وضعفين ما هي في سوريا. • الضمان الاجتماعي وهو ضعفي ما هو في مصر وسوريا . • القيمة المضافة على مستلزمات الإنتاج وقد أصابت عديداً من مدخلات الإنتاج للصناعات الغذائية بينما هي معفاة في معظم الدول العربية التي اعتمدت القيمة المضافة. • الرسوم الجمركية على بعض مدخلات الإنتاج وهي معفاة منها في معظم الدول العربية. • الرسوم غير المباشرة على المصانع وهي متعددة وتتراكم بحيث تؤثر تأثيراً ملحوظاً على كلفة الإنتاج . • الرشوة وأصبحت بحد ذاتها عبئاً كبيراً غير منظور على كافة الصناعات ومنها الصناعات الغذائية . ثانيا : مشكلة اتفاقات التبادل التجاري الحر الثنائية والجماعية . من المؤسف حقاً أن تكون الحكومات المتعاقبة منذ 1990 وحتى الآن قد اعتمدت مبدأ الانفتاح المطلق فأخذت تسارع إلى عقد اتفاقات التبادل التجاري الحر مع دول أخرى ومع الدول الأوربية ومع الجامعة العربية كل ذلك على أثر حرب أهلية دمرت اقتصاد لبنان ووضعت أصحاب كل الصناعات وفي مقدمتهم أصحاب الصناعات الغذائية في وضع صعب للغاية بدل أن تتريث وتنكب على دراسة مصلحة المواطن المنتج أولاً. أن هذه الحكومات وقعت في خطأ اعتماد الاتفاقات التجارية هدفاً بحد ذاته بدلا من أن تكون وسيلة تخدم مصالح المنتجين في لبنان . لقد فاتها أن كل دولة أو مجموعة وقعت معها اتفاقية للتبادل التجاري الحر قد لجأت إلى اعتماد وسائل حمائية بمسميات مختلفة. فمنها من لجأ إلى تصعيد وتيرة المواصفات القياسية بحجة حماية مصلحة مواطنيها ومنها من اعتمد العرقلة المفرطة في شروط دخول المنتجات اللبنانية إلى أسواقها . ثم أن معظم الدول العربية التي استفادت من الاتفاقات التجارية مع لبنان قد استغلت الإبهام الحاصل في قواعد المنشأ العربي وأخذت تغزو لبنان بمنتجات لا تتضمن حقاً الأربعين بالماية من مكونات الإنتاج عناصر عربية حتى تتمتع بالمنشأ العربي المطلوب .كل هذه العوامل أفادت الدول المصدرة لنا ولم تفد صادراتنا إليها بشيء .
ثالثاً : غياب استعدادات الحكومة اللبنانية لمساعدة المصدرين يبدو أن الحكومات المتعاقبة كانت تجهل الاستعدادات المطلوبة منها لتسهيل عمليات التصدير. من هذه الاستعدادات وجود مختبرات معتمدة (accredited) من مؤسسات اعتماد معترف بها دولياً (accreditation bodies) كي تعترف الدول المستوردة وخاصة الدول الأوربية والولايات المتحدة وكندا بالشهادات الصادرة عنها. من هذه الاستعدادات أيضا وجود مسؤولين على درجة عالية ومناسبة من الاختصاص والخبرة والحياد تدير شؤون الإنتاج بطرق سليمة من الوجهة البيئية أو السلامة العامة أو القدرة على تنفيذ القوانين والتعليمات. ومنها أيضاً عدم اكتمال القوانين والتعليمات المطلوب منها إصدارها .رابعا : مشكلة التهريب من سوريا لم يعد سرا القول أن التهريب من سوريا على يد مافيات التهريب وأمام سمع وبصر السلطات الجمركية اللبنانية أصبح مشكلة مستعصية تلقي بثقلها على كل الصناعات اللبنانية ومنها الصناعات الغذائية. ولن نغالي إذا قلنا أن التهريب قد تسبب بإغلاق العديد من مؤسسات الصناعات الغذائية المنتجة في لبنان وفي مقدمتها إنتاج الألبان والأجبان وإنتاج لحم الدواجن والخضار وغيرها .. والجدير ذكره أن سوريا ولبنان وقعا اتفاقية للتبادل الحر بين البلدين ولا يخضع أي منتج لرسوم جمركية. لكن السبب الوحيد الذي يشجع التهريب هو الهروب من إجراءات الفحوص المخبرية وبالتالي الهروب من التقيد بالمواصفات اللبنانية . لطالما نبهنا المسئوولين عن هذه الظاهرة الخطرة على المنتجين اللبنانيين والمستهلكين على حد سواء دون أن يلقى نداؤنا آذان صاغية بحجة أن ظاهرة التهريب هي ظاهرة تعم كل الدول المتجاورة ويجب القضاء عليها. فيما لها من حجة!
إجراءات التقيد بالمواصفات
أن إنتاج مواد غذائية تتماشى مواصفتها مع المواصفات القياسية اللبنانية يقتضي بالضرورة تعديلات كبيرة على مراكز الإنتاج بدءً بالبنية الأساسية وانتهاء بالتجهيزات وإجراءات الإنتاج السليم . هذا الأمر يتطلب وضع مواصفات قياسية للمصانع ذاتها بحيث يعطي أصحابها مهلة محددة من الزمن للتقييد بها وبالتالي الإبقاء على تراخيص استثمار هذه المصانع . هذا ناهيك عن المصانع غير المرخصة والمنتشرة في كل الأراضي اللبنانية والتي على الحكومة اتخاذ إجراءات واضحة بشأنها وبشأن ترخيصها طبقا للمواصفات . تتعدد في لبنان الجهات التي تتولى إعطاء تراخيص الإنشاء والاستثمار. فمنها من يحصل على هذه التراخيص من المحافظة ومنها من يحصل عليها من وزارة الصناعة. فلابد من توحيد إجراءات إعطاء التراخيص وتسهيلها بحيث تساعد المصنع على تنفيذها .
من هنا يتبين كيف أن تحديث العديد من مصانع الصناعات الغذائية في لبنان أصبح ملحاً ومقدمه ضرورية للوصول إلى إلزام أصحابها التقييد بالمواصفات القياسية للمنتجات لكن لابد من الأخذ بالاعتبار أن هذا التحديث سيشكل عبئا ماليا كبيراً على أصحاب المصانع وقد لا يتجاوب معظمهم أن لم ير النور في نهاية النفق المظلم الذين هم به بظل المشكلات الأربع التي عددنا سابقاً. ذلك أن التحديث سيزيد من كلفة إنتاجهم تماما كما التقيد بمواصفات المنتجات. أخال العديد منهم يفضل التوقف عن الإنتاج تماما على التورط في تكاليف إضافية سوف يواجهون منافسة غير متكافئة مع المستورد من دول كلفتها أقل أو المهرب من سوريا .
شروط التقيد بالمواصفات
يبدو مما تقدم أن استعداد الصناعات الغذائية للتقيد بالمواصفات اللبنانية وبالتالي بمواصفات الدستور الغذائي لا جدال حوله. لكن من الطبيعي أن تأتي تصرفات الحكومة تجاه هذا القطاع مشجعة وعادلة.
أن القطاع الخاص هو المعني بعمليات الإنتاج وعليه تنفيذ المواصفات. من الطبيعي أن يقوم بذلك طالما أن باستطاعته التنفيذ دون إرهاقه أو تحميله خسارات لا طاقة له عليها وإلا لجأ إلى التوقف عن الإنتاج وهي نتيجة أرجو إلا تكون أحد أهداف الحكومة غير المعلنة.
لذلك ومن أجل تنفيذ المواصفات بصورة تلقائية وإيجابية على الحكومة أن تقوم بما يلي :
1) إعادة النظر بكافة اتفاقات التبادل التجاري الحر الثنائية منها والجماعية حتى تخدم مصلحة المنتج اللبناني. فلا خجل ولا إحراج بهذا العمل طالما أنه يخدم الاقتصاد الوطني .
2) إلغاء الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة على كافة مستلزمات الإنتاج .
3) توفير تسعيرة خاصة للمحروقات للقطاعات الصناعية والزراعية تعتمد الكلفة الفعلية يصل إلى حدود أسعار الدول المجاورة كسوريا ومصر.
4) إعادة النظر بالرسوم الجمركية على كافة المنتجات الغذائية المستوردة ورفعها إلى درجات تحمي الصناعات الغذائية المحلية حماية كافية، خاصة في ظل ارتفاع سعر الطاقة الكهربائية والأيدي العاملة ورسوم الضمان الاجتماعي والرسوم المختلفة الأخرى في لبنان مقارنة مع الدول الأخرى .
5) الاستعجال بتجهيز المختبرات المحلية بالعدة والخبراء حتى تصبح معتمدة من مؤسسات اعتماد دولية .
6) منع التهريب من سوريا بكل الوسائل .
بهذه الخطوات تكون الحكومة قد فتحت الباب على مصراعيه لتفعيل الصناعات الغذائية في لبنان لاستعادة دورها في توفير الغذاء السليم للمواطنين وإحلال هذه المنتجات محل المستورد منها والذي أصبح يناهز العشرة أضعاف المنتج المحلي .