تعود إنطلاقة صناعة الدواجن الى منتصف الخمسينيّات من القرن الماضي وذلك في مصر والعراق وسوريا أولًا، ثم تبعها لبنان والأردن والمملكة العربيّة السعوديّة وغيرها بصورة تدريجيّة.
حدثت الإنطلاقة على يد حكومات الدول الثلاث المذكورة والتي استعانت بشركات أوروبيّة وعلى رأسها مصنّعين للبيوت المسبقة الصّنع والمعدّات، وبتزويدهابالدواجن المؤصّلة والخبرات المتوفرة لديها في حينه. لكن من المؤسف أن هذه الشركات لم تأخذ بالإعتبار موضوع الأمن الحيوي في تصاميمها وخاصة لمزارع تربية الدجاج البيّاض، ولا الى ناحية الأبعاد الوقائيّة بين المزارع وبين الأعمار وبين السُّلالات. فهمّها تركّزعلى سرعة البيع وسرعة التنفيذ بموافقة أساتذة جامعات وأطباء بيطريّين ومهندسين زراعيّين محلّيين تنقصهم العلوم والخبرات كون هذه الصناعة كانت حديثة بالنسبة لهم.
دخل القطاع الخاص بصورة جدّيّة في تربية الدواجن في لبنان أولًا عام 1958 وتبعه القطاع الخاص في الدول العربية الأخرى بصورة تدريجيّة. تسلّمت مهمة اعطاء تراخيص البناء في كل هذه الدول اكثر من وزارة، بدءًا بوزارة الزراعة مرورًا بوزارة البيئة الى وزارة الصحّة وغيرها كمؤسسات التنظيم المُدُني واستغلال الأراضي الصحراويّة ومعالجة شؤون ساكنيها من مقيمين ورعاةٍ ورحَّل.
شاب الإنطلاقة وكذلك التوسّع السريع أخطاء كبيرة في تصاميم البناء المسبق الصنع أولًا، وفي أنظمة التهوئة والتبريد والمعدّات ثانيًا. أدّت جميعها الى ارتفاع في كلفة الإنتاج ناتج عن تعدّد الأمراض وسوء التغذية والإفراط في التحصينات والعلاجات بدل التركيز على الوسائل التي تَقي من الأمراض.
يأتي في طليعة الإجراءات الواقية من الأمراض وبالتالي الإستغناء شبه الكلّي عن التحصينات والعلاجات، الأبعاد الدُّنيا بين المزارع أولًا، وبين الأجناس والأعمار ثانيًا. فهذه الإجراءات غابت عن فكر ودراية كافة المسؤولين عن هذه الصناعة في كافة الدول العربية دون استثناء كما غابت عن غالبية المستثمرين في هذا القطاع الحيوي والهام.
فالقيّمون على إعطاء التراخيص في وادٍ، والمستثمرون في وادٍ آخر، وكلاهما مخطىء بحق صناعة تُعدّ اليوم أهمّ صناعة غذائيّة حيوانيّة في العالم على الإطلاق. فبيض المائدة وهو الوحيد الذي يوازي الحليب غذائيًا ويكلّف نصف التكلفة. ولحوم الدواجن أقلّ كلفة من لحم الخنزير ويوازي نصف كلفة لحم الأبقار والأغنام. هذا دون أن نأخذ بعين الإعتبار الضرر الكبير الذي تسبّبه قطعانالأغنام والأبقار للبيئة نتيجة الإنبعاثات الكربونيّة والميثان.
من المؤسف ان الاخطاء التي نتجت عن تجاهل أهميّة الأبعاد الوقائيّة بين الأعمار والأجناس والمزارع والتي تسبَّب بها المسؤولون عن وضع المواصفات واعطاء التراخيص أولًا والمستثمرون ثانيًا، هي أخطاء يصعب تصحيحها، اللّهم إلاّ على مدى عقود.
لكن يبقى التصحيح هو خشبة الخلاص. والتصحيح يتطلّب جرأة ومسؤوليّة وإدراكًا وتصميمًا على صعيد المسؤولين أولًا، وتجاوبًا ومجاراةٍ على صعيد القطاع الخاص والمستثمرين ثانيًا.
يعتبر موضوع "الأمان الحيوي" رأس الحربة في رفع شأن صناعة الدواجن في الدول العربيّة وغيرها لا يتقدّم عليه أي اعتبار آخر. فالوقاية الفاعلة من الأمراض يؤدّي الى تحسين الإنتاجيّة وتخفيف التكلفة ورفع مستوى النوعيّة على كافّة الصُعد.
إجراءات الأمان الحيوي عديدة ومتشعّبة ومتكاملة في آن. فأي إنتقاص في بعضها يفقد فعاليّتها ولا يؤدّي الى النتائج المرجوّة منها في نهاية المطاف.
الاجراءات الحكومية الملزمة:
1- تحديد المسافات الدُّنيا بين مزارع الدواجن نسبة لإختصاص إنتاجها.وأقترح ها هنا:
* 25 كيلومتر بين مزارع جدود الدواجن وأي نشاط داجني آخر.
* 15 كيلومتر بين مزارع امهات الدواجن وأي نشاط داجني آخر.
* 10 كيلومتر بين مزارع الدجاج البياض وأي نشاط داجني آخر.
* 5 كيلومتر بين مزارع تسمين الدواجن وأي نشاط داجني آخر.
وهنا لا بدّ من إعتماد السلطات المختصّة هذه الإجراءات بمثابة قوانين ملزمة وتعطي أصحاب المزارع الحاليّين فرصة زمنيّة لا تتعدّى السنوات العشر لِنقل مزارعهم من الأماكن السكنيّة إلى أماكن بعيدة والتقيّد بالمسافات الدُّنيا المذكورة.
2- بالنسبة لمجمّعات الجدود أو الأمان أو البياض أو التسمين والتي تكون على أرض شاسعة كاملة التسوير، فيجب أن يفصل كل مزرعة منفصلة عن غيرها ضمن المجمّع الواحد مسافة لا تقلّ عن كيلومتر واحد، مع ضرورة تسوير كل مزرعة على حده، بما فيها الخدمات وسكن عمالها وانشاء طريق مسوّر كليًا لفصل الموقع عن جاره ضمن المجمّع الواحد.
3- إلزام العمر الواحد والنوع الواحد في الموقع الواحد سواء كان منفردًا أو ضمن مجمّع.
4- إلزام مسافات دُنيا بين العنابر في الموقع الواحد لا تقلّ عن عرض العنبر.
5- إلزام تسوير كل موقع على حده من السور المرتفع الذي لا يقل ارتفاعه عن ثلاثة أمتار والذي يمنع دخول الحيوانات البريّة والأليفة.
6- إلزام ان يكون البناء من الإسمنت حيطانًا وأسقفًا وليس من البيوت المسبقة الصنع وأن تكون ارضية الأبنية خرسانية مسلّحة بحيث تمنع القوارض من دخول الحظائر من خارج المبنى.
7- إلزام ان تكون حيطان الحظائر مقفلة مع وجود نوافذ مُحكمة الإغلاق تُستخدم فقط في الحالات الطارئة لدى انقطاع التهوئة الإصطناعيّة.
8- إلزام وجود سكن ملائم للعاملين داخل مواقع الدواجن ومدخل مخصّص لتغيير ملابسهم ولإستحمامهم لدى العودة من اجازاتهم.
9- ضرورة إشراف السلطات البيطرية على التحصينات المعتمدة ضد الأمراض الفيروسيّة ومنع استخدام التحصينات للأمراض البكتيريّة والتأكد من عدم استخدام الامصال الخاصة بالفيروسات الممنوع التحصين لها.
10- من الأهمية بمكان أن تلجأ الحكومات الى حماية الإنتاج الوطني وخاصة من إستيراد لحوم الدواجن المجمّدة حماية جمركية فاعلة تحفيزاً للإستثمار في هذا القطاع الغذائي الهام ومنعاً للمنافسة غير المشروعة.
الاجراءات الواجبة على المزارعين:
1- منع دخول الزوّار لأي سبب كان، وإطالة اقامة العاملين داخل المزرعة الواحدة بين الإجازة والأخرى.
2- وضع خزّانات العلف داخل الأسوار واعتماد استقبال العلف السائب من خارج هذه الأسوار.
3- إعتماد التهوئة الإصطناعيّة إمّا السلبية أو الإيجابيّة باستخدام المراوح المناسبة مع نظام التدفئة شتاءً والتبريد صيفًا ونظام تنقية الهواء خاصّة لمزارع الجدود والأمات.
4- بناء مدفن للطيور النافقة في إحدى زوايا المزرعة.
5- بناء مجمّع بمحازاة السور يشمل مكتب الإدارة، وحمام الإستحمام وتغيير الملابس، ومخزن النجارة ومخزن المستلزمات ومخزن البيض.
من الواضح أنّ الغرض من هذا المقال هو تسليط الضوء على المشاكل البنيويّة التي اعترت وتعتري صناعة الدواجن في العالم العربي.إن مستقبل هذه الصناعة اقتصاديًا وأمنيًا يعتمد على تدخل السلطات المعنيّة في كل بلد عربي كي تكون الوقاية أساسًا لإستمرارها وليس العلاج. والوقاية هذه تؤدّي حتمًا الى تحسين النوعية وتخفيف الكلفة وتساهم في توفير الغذاء السليم الطازج حسب رغبة المستهلكين،كل ذلك عن طريق منع الأمراض وتأثيراتها على كلفة الإنتاج.
أمّا مسألة مستقبل صناعة الدواجن في العالم العربي نسبةً لتوفّر مستلزمات الإنتاج من أعلاف وأدوية ومعقمات ولقاحات ومعدّات، فهذه تحتاج إلى دراسة مستفيضة منفصلة.