في مقالة سابقة بيّنت أن الغاية من إنشاء منظمة التجارة العالمية كأحد منظمات الأمم المتحدة كان ظاهرياً من أجل تسهيل التجارة بين الدول ووضع قواعد ملزمة للدول الأعضاء فيها . لكن في واقع الحال كانت غاية الدول الصناعية والتي دلّلت على إنشاء المنظمة هي منع الدول في طور النمو والنامية من تطوير صناعتها والإعتماد على إستيراد إحتياجاتها من الدول الصناعية .
والدليل على هذا الإستنتاج هو تمنع الدول الصناعية من توقيع إتفاقيات التبادل التجاري الحر للمنتجات الزراعية والغذائية والدوائية بحجة حماية مزارعيها ومصنعي المنتجات الغذائية والدوائية فيها وبحجة أن هذه المنتجات تحتاج لمراقبة صحيّة عالية المستوى بدءاً من المزرعة وإنتهاءً بالمصانع الأمر الذي يصعب تنفيذه على يد الدول الصناعية في بلدان منشأ هكذا منتجات .
لم تتوقف الدول الصناعية عند هذا الحدّ فى التمييز في وضع وتنفيذ الإتفاقيات التجارية ، بل تعدّت ذلك إلى :
• إعتماد وسائل حمائية عدة وفرض رسوم جمركية على بعض السلع التي تصلها من بلدان منافسة كي تبعد تهديد هذه المنتجات للمصانع المماثلة في بلدانها وتبقى هذه المصانع عاملة ومحافظة على سوقها المحلى وعلى موظفيها .
• دعم الإنتاج المحلي بطرق مباشرة كدفع مبالغ عن كل وحدة محددة من الإنتاج وغير مباشرة كالإرشاد والتدريب.
3...3) توفير الطاقة بأسعار متهاودة .
4) وضع مواصفات تعجيزية للمنتجات المستوردة التى تنافس الإنتاج المحلي .
5 ) دعم التصدير . وجميع هذه الإجراءات هي بالواقع مخالفة لأنظمة وقوانين وإتفاقات منظمة التجارة العالمية.
لكن حجة وإدعاءات الدول الصناعية هي تحدي للدول المصدّرة والمتضّررة من إجراءاتها كي تلجأ للتحكيم داخل المنظمة وهيهات أن يصل التحكيم إلى قرارات تدين الدول الصناعية لما لهذه الأخيرة من نفوذ وباع طويل في إطالة إجراءات التحكيم لسنين عديدة بتكاليف باهظة توصل الدول المتضررة إلى حالة من اليأس خاصة إذا ما هددّت الدول الصناعية الدول المتضررة بإجراءات مؤذية لدى البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى أو إفتعال مشاكل أمنية تصل إلى فرض عقوبات أو حظر تجاري من أجل شل حركتها التنموية والتجارية .
وعليه صدق من قال أن الإقتصاد هو عصب السياسة وخاصة للدول الصناعية .
فهي تعمل كل ما في وسعها لتكوين سياسة تجاه الدول الأخرى مبنية على إستقرار إقتصادها إنتاجاً وتصديراً من الواضح أن الدول التي تنادي بالإنفتاح والعولمة هي تلك التي لديها فائض من الإنتاج تحتاج إلى أسواق خارجية لتصريفه والإبقاء على مستوى عالٍ من التوظيف ومستوى منخفض من التضخم في بلدانها . أمّا الدول النامية أو في طور النمو أو الفقيرة فعليها تكيّف سياستها الإقتصادية مع متطلبات بلدانها لجهة مستوى النمو وقدرتها على التصدير وعلى إبقاء ميزانها التجاري متوازناً.
فإذا كانت بين الدول التي تستطيع منتجاتها المنافسة في الأسواق العالمية وإذا كان ميزانها التجاري لصالحها فهي ستكون مستفيدة من إتفاقيات التبادل التجاري الحر ومن سياسة العولمة .
أما إذا كانت منتجاتها محدودة وقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية منعدمة وميزان تجارتها في حالة عجز دائم فليس لها مصلحة في إعتماد الإنفتاح وفي تخفيض مستوى الحماية الجمركية وحتى في الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية . لذلك فأنا من دعاة الدول الفقيرة والنامية إلى دراسة متأنية لقدرتها على الإنتاج المنافس في الأسواق العالمية وإلى مراجعة دقيقة لميزانها التجاري .
فإذا كان هذان العاملان سلبيين فما عليها إلا عدم الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية أو الإنسحاب منها إذا ما كانت قد إنضمت خطأ . وبالتالي تلجأ إلى مبدأ حرية التبادل التجاري أو حرية العرض والطلب لمستورداتها ولصادراتها على حدٍ سواء .
إن مثل هذه السياسة للدول النامية تفسح في المجال لتحفيز الإستثمار في الإنتاج الذي يمكن أن يحل محل المستورد وفي خلق فرص عمل لمحتاجينها ، وهي عادة مرتفعة ، وفي تخفيض العجز في ميزانها التجاري وفي تطوير إقتصادها وإدخال التكنولوجيات الحديثة . يكفي أن إنتاجها المحلى الذي يحل محل المستورد يتم تصريفه في بلدانها دون مواجهة المنافسة من إنتاج بلدان أخرى .
إن سياسة حرية التبادل التجاري إنما هي سياسة مسالمة ناهيكم عن خلق فرص لإدخال تكنولوجيات جديدة وتدريب الكوادر المختلفة على الإنتاج وتحسين نوعيته وتخفيض كلفته واللحاق بصورة تدريجية بالدول الصناعية .