في هذه المقالة أودّ الإسهاب في موضوع ضرورة تعديل السياسة الإقتصادية حيال القطاعات الإنتاجية من أجل تحفيز الإستثمار فيها وخلق فرص عمل بظل تفاقم البطالة إلى معدّلات مخيفة. أقول أن سياسة الإنفتاح المفرط التي إتبعته كل الحكومات المتعاقبة منذ 1992 حتى يومنا هذا بحجة أن كلفة الإنتاج في لبنان مرتفعة وبأنه يكفي لبنان الإعتماد على السياحة والخدمات ثبت فشلها فشلاً ذريعاً.
إنصاعت هذه الحكومات الى إملاءات الدول الصناعية كالولايات المتحدة الأميركية ومجموعة الدول الأوروبية فخفّضت الجمارك الى معدّل 5% فقط. أدّى هذا الإنصياع إلى إرتفاع عجز الميزان التجاري بصورة مضطردة إلى أن وصل إلى 17 مليار دولار سنوياً في عام 2016 وإلى إنخفاض التصدير إلى 50% من حجمه الأعلى الذي وصل إليه وبات لا يتعدى 2,7 مليار دولار.
نتج عن هذه السياسة أن أقفلت صناعات عديدة في لبنان كصناعات الأحذية والملابس والبورسلان والأدوية والعديد من المعدّات الزراعية والصناعية وغيرها. كما تراجعت زراعات عديدة كالعدس والحمص والفول والمكسرات والفاكهة. وكلها لم تستطع الصمود أمام منتجات مستوردة أقل كلفة إمّا بسبب دعم إنتاجها أو دعم تصديرها في بلد المنشأ أو بسبب تدنّي قيمة الطاقة أو العمالة فيها. فبات لبنان مستورِداً حتى لـ 85% من مواده الغذائية.
إنصاعت الحكومات المتعاقبة لأوامر الدول الصناعية وفسحت لها بالمجال لوضع قانونَي حماية المستهلك وحماية الإنتاج الوطني بطريقة تهشّل الإنتاج الوطني مقابل المستورد بسبب الغرامات الفاحشة للمخالفات ولا تحمي أيّ منتَج وطني على الإطلاق.
لم يبقَ في لبنان صامداً سوى القطاعات المدعومة أو المحميّةكالقطاع المصرفي الذي يوظف معظم مدخراته لدى وزارة المال والبنك المركزي لقاء فوائد مرتفعة ويقبض قيمة هذه الفوائد فيتراكم الدَّين العام إلى ما شاء الله. ولم يبقَ في لبنان صامداً سوى صناعات إحتكارية كصناعة الإسمنت الممنوع إستيراده، وشركة طيران الشرق الأوسط التي تتمتع بحق فرض رسوم بطاقات السفر بطريقة إحتكارية بعيداً عن سياسة الأجواء المفتوحة.
إنصاعت الحكومات المتعاقبة إلى القبول بتوقيع إتفاقيات التبادل التجاري الحرّ الثنائية منها والجماعية كإتفاقية المنطقة العربية الحرة وإتفاقية اليورو متوسطية. وها هو لبنان ساعٍ للدخول بمنظمة التجارة العالمية التي يضغط أعضاؤها على لبنان كي يلغي الرسوم الجمركية على القليل المتبقي من المنتجات الوطنية المحمية جزئياً كي يصبح مستورداً لـ 95% من إحتياجاته الغذائية وغير الغذائية أي يصبح بلداً ريعيّاً يأكل ممّا لا يزرع ويلبس ممّا لا يصنع.
عبثاً حاولنا ونحاول مع رؤساء الوزاراتوالوزراء المتعاقبين في وزارات الزراعة والصناعة والإقتصاد والمالية كي نوضح خطورة هذه السياسات العقيمة التي تؤدي إلى هجرة الكفاءات اللبنانية وخاصة خرّيجي الجماعات والمعاهد والتي وصل عددهم إلى ثلاثين ألفاً سنوياً فلم نصل إلى أي نتيجة. وحده معالي وزير الصناعة الحالي تجاوب وتبنّى وجهة نظرنا بضرورة إعادة الرسوم الجمركية إلى المنتجات التي تُنتَج أو تُصنّع في لبنان وتلك التي من السهل إنتاجها أو تصنيعها بمجرد فرض هذه الرسوم على المستورَد منها لكنه لم يستطع حتى الآن إقناع مجلس الوزراء.
نقولها الآن بالفم الملآن لرئيس مجلس الوزراء ولكافة الوزراء أن مسؤوليتكم أساسية وجسيمة في تخفيف مستوى البطالة من 35% إلى ما دون الـ 10% وهذا لن يحدث بدون تحفيز الإستثمار في القطاعات الإنتاجية. والتحفيز هذا يستلزم إيقاف العمل بإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ الثنائية منها والجماعية وإيقاف التباحث مع منظمة التجارة العالمية. التحفيز يتطلّب وضع رسوم جمركية على كل المنتجات التي يتمّ إنتاجها ولو جزئياً والمنتجات التي يمكن إنتاجها بصورة تلقائية.
فالصين قاومت دخولها بمنظمة التجارة العالمية أكثر من عشرين سنة حتى بَنَت إقتصاداً صناعياً ضخماً وأصبح من مصلحتها فتح الحدود لأنه يتيح لها مجال تصدير منتجاتها. وإسرائيل تعتمد حتى يومنا هذا سياسة حماية منتجاتها الزراعية والغذائية وتمنع إستيراد حتى البندورة من الأردن وأية منتجات من مصر. ومصر بالرغم من أنها أول دولة عربية تنضم لمنظمة التجارة العالمية وهي موطن جامعة الدول العربية والداعية لإنشاء إتفاقية المنطقة الحرة العربية، لجأت منذ سنة على رفع الرسوم الجمركية عن 618 مادة إلى 40% حمايةً لمنتجيها. أمّا الدول الصناعية الكبرى مؤسِّسو منظمة التجارة العالمية فإنهم تمنّعوا حتى اليوم من توقيع إتفاقيات التجارة الحرة للمنتجات الزراعية والغذائية والدوائية بحجة حماية منتجيهم والإشراف على سلامة هذه المنتجات. وهذه الولايات المتحدة لجأت مؤخراً لإلغاء فتح الحدود لمنتجات عديدة من كندا والمكسيك وهي مؤسِّسة وموقِّعة على إتفاقية التبادل التجاري الحر مع هاتين الدولتين. والولايات المتحدة إتجهت مؤخراً لوضع رسوم جمركية مرتفعة على إستيراد إطارات السيارات من اليابان والحديد من أوكرانيا وهي تفاوض حالياً الصين على تخفيف إستيراد منتجات صناعية متعددة بغية إعادة إحياء هذه الصناعات في الولايات المتحدة. سمعت كثيراً القائل بأن وضع الرسوم الجمركية سيزيد من قيمة المنتجات للمستهلك وبالتالي غلاء المعيشة وهذا أمر مرفوض. أقول لهؤلاء أنّ الغلاء والرخص أمر نسبي وليس مطلقاً. إنه نسبة للدخل. إنّ أية زيادة في المعيشة سواء أتت من منتجات محلية أو مستوردة يجب أن ترافقها زيادة في الأجور، الحد الأدنى منها وتلك المتداولة. فما معنى أن تكون السلعة متوفرة ورخيصة الثمن لمن ليس له عملاً. إن الحد الأدنى للأجور ليس واحداً في كل العالم بل هو متناسق مع الدخل، والدخل مع فرص العمل ومعالجة البطالة، والبطالة مع خلق فرص الإستثمار، والإستثمار مع تحفيزه كي يكون مجدياً، والتحفيز في بلد يعتمد على الإستيراد لن يأتي إلّا بتخفيض الأخير، والتخفيض لن يأتي إلاّ بِلجمِه عن طريق الرسوم الجمركية الفاعلة.
كفانا عنتريات العولمة وكأنها الموضة كالحذاء العالي والجينز المنتّف للصبايا والنساء بينما الحقيقة فإن العولمة ما كانت إلّا وستظلّ إستعماراً إقتصادياً يعيق تمكّن الدول المستوردة الضعيفة من النهوض والتصنيع والإكتفاء الذاتي. كفانا عنتريات والتلطي خلف غلاء المعيشة بينما العلّة تقع في البطالة المتفاقمة التي هي علة العلل.
الحكومات الرشيدة يجب أن تركّز على عاملين أساسيين في وضع سياستها الإقتصادية، وهما مستوى البطالة ومستوى التضخم فتلجمهما وتترك للقطاع الخاص مهمة العمل والإنتاج والإبداع والتطوّر والإكتفاء.