في مقالتَين سابقتين شرحت أهمية وصول مصر الى مركز صناعي رفيع وبيّنتُ بأنّ المهمّة تقع على الدولة في التشريع المناسب والمحفّز وعلى القطاع الخاص في التنفيذ.
في هذه المقالة أودّ أن أُعدِّد أوجه الدفاع عن سياسة الحماية الجمركيّة وخاصةً في الدّول النّامِية كدولة مصر كوسيلة فُضلى لِتحفيز القطاع الخاص للإستثمار في القطاعات الإنتاجيّة والصناعيّة في مُقدِّمتِها.
بدايةً أودّ ان أشير إلى أهمّية أن تعتمد أي دولة سياسة إقتصادية تخدم مصلحة مواطنيها لأن أي سياسة لا يمكن أن تكون هدفاً بحدّ ذاتها بل وسيلة لتحسين حال المواطنين. كما أودّ ان أفرِّق بين الدول التي لديها منتجات تتمتع بميزة تفاضليّة تنافسيّة بأحجام كبيرة تجعل الميزان التجاري لصالح الصادرات وتلك التي تفتقر إلى هذه الميزة وبالتالي يفوق حجم إستيراداتها أضعاف حجم صادراتها فأقول بأنني أنادي بسياسة الإنفتاح للأولى بينما أنادي بسياسة الحماية للثانية.
تقع مصر في مقدمة الدول التي يصل حجم إستيراداتها ضُعفَي حجم صادراتها حسب آخر إحصاءات 2013 حيث بلغت قيمة الصادرات 28 مليار دولار بينما كانت قيمة الواردات 59,3 ملياراً. وقد تفاقم هذا الفارق مع توقيع إتفاقيات التبادل التجاري الحرّ مع الدول الأخرى منذ عام 1995 ومع تخفيض الرسوم الجمركية على المستوردات والتي جاءت مع دول تعتمد سياسة دعم إنتاجها إما عن طريق توفير الطاقة بأسعار متدنّية كونها مُنتجة للبترول، أو عن طريق دعم الإنتاج المحلي أو دعم التصدير. وفي جميع هذه الحالات واجهت الصناعة والزراعة في مصر منافسة غير متكافئة وغير عادلة قلّصَت من حجمها ووجودها. نتج عن ذلك إنتقال الكفاءات المصريّة برساميلِها وخبرتها الطويلة إلى دول تحفِّز الإستثمار وتشجِّعُه. كما نتج عن هكذا سياسة هجرة الأدمغة المصريّة بسبب ضيق فرص العمل في مصر. من جهةٍ أخرى فمصر غير قادرة على دعم الإنتاج والتصدير بسبب العجز الكبير لميزان المدفوعات وتفاقم الدَّين العام.
إذاً أنا من دعاة حماية الإنتاج الوطني حماية جمركية فاعلة ومؤثرة وبالتالي تعديل الإتفاقيات المُبرمة مع كل الدول والمنظمات عازياً هكذا سياسة إلى المعطيات والمبرّرات التالية:
أولاً: إنّ كلفة الإنتاج الصناعي والزراعي في مصر مرتفعة بسبب إجراءات الدولة من رسوم على المحروقات ورسم القيمة المضافة ورسوم جمركية على بعض مدخلات الإنتاج والرسوم المختلفة والرشوة وغيرها. وعليه تصبح القدرة على التصدير صعبة.
ثانياً: مرّ على مصر ثلاث سنوات من الإضطرابات الأهلية والخلافات الحادة وعدم الاستقرار ممّا جعل القطاع الصناعي والزراعي بعيدأ عن التحديث وبالتالي بعيداً عن تخفيض كلفة الإنتاج وتحسين النوعية. من هنا وجبَ تحفيز هذين القِطاعَين كي يقوم أصحاب المشاريع على تحديثها ومواكبة التقنِيّات الحديثة.
ثالثاً: من الحكمة بمكان أن يتمّ تنويع مصادر دخل المصريّين وتنويع الإقتصاد وعدم إعتماده على القطاعات الخدماتية والسياحيّة فقط كون هذه القطاعات مناطِقِيّة غير عامة كل مصر وكَون أيّ هزّة أمنية قد تفقد الدّخل من السياحة أو الخدمات المصرفية والطبية والتعليمية.
رابعاً: هنالك حوالي مليونَي إنسان سنوياً يدخلون سوق العمل. يستحيل إستيعابهم في قطاعات الخدمات أو وظائف الدولة. إذاً لا بدّ من تحديث القطاعات الإنتاجية كي تساهم في إستيعابهم.
خامساً: في معظم الحالات تكون المنتجات المستوردة الأقل سعراً مدعومة من مصدرها إنتاجاً أو تصديراً وهذا يجعلها منافِسة الإنتاج المصري غير المدعوم منافسةً غير مشروعة وغير متكافئة ناهيك عن كَون الدعم مخالف لإتفاقيات منظمة التجارة العالمية. وقد جاء قانون حماية الإنتاج الوطني بوضعه الحالي غير قادر على حماية الإنتاج الوطني من ممارسات الدعم غير المشروع من الدول المصدّرة الى مصر.
سادساً: إنّ الحماية الجمركية سوف تحفّز المستثمرين بالولوج إلى الاستثمار في القطاعات الإنتاجية لأنّ سوق إنتاجهم متوفّر محلياً ولا ضرورة لهم لإيجاد أسواق خارجيّة له.
سابعاً: قد ترفَع الرّسوم الجمركية من قيمة المنتجات المستوردة أو تلك المنتجة محلياً محل المستوردة ولكن يُقابل هذه الزيادة إيجاد فرص عمل لمُحتاجيها وما أكثرهم. فمن الأفضل والأحرى زيادة كلفة المعيشة زيادة طفيفة مع توفُّر الدّخل بدلاً من كلفة معيشة أقل لكن مع بطالة عامة.
ثامناً: عندما تُقرِّر الدولة فرض أو زيادة الرسوم أو عندما أقرّت رسم القيمة المضافة لم تتوارى عن القيام بهذه الإجراءات بالرغم من كونها زادت من كلفة معيشة المواطنين من دون أن توفِّر لهم فرص عمل جديدة مقابل هذه الرسوم. وعليه فإنّ إثارة زيادة كلفة المعيشة لدى مطالبة القطاعات الإنتاجية بالحماية الجمركية هي إثارة غير مُبرّرَة.
تاسعاً: إنّ فرض الرسوم الجمركية سوف يزيد من دخل الحكومة من هذه الرسوم وبالتالي يساهم في تخفيف عجز الموازنة المُتفاقم.
عاشراً: من الصعب نقل مصر من مصاف الدول النامية الى تلك المتقدمة أو الصناعية دون المرور بمراحل الإنتاج وتراكم الخبرات والتعلّم على تحسين الكفاءة وتخفيض الكلفة.
حادي عشر: تقوم الدولة بحماية قطاعات عديدة من المجتمعات المصريّة. فالنقابات المهنية محميّة بقوانينها الملزِمة فتمنع إستقدام مُحامين ومهندسين وصيادلة وممارسة أعمال مُماثلة لِلّتي يمارسها المصريون. فلماذا تكون إجرءات الحماية إنتقائية وتصبح غير مرغوب بها عندما يعود الأمر للقطاعات الصناعية والزراعية.
ثاني عشر: في أوائل عام 2008 إرتفعت قيمة معظم المواد الغذائية إرتفاعاً كبيراً. فالقمح والذرة وكسبة فول الصويا ومنتجات الألبان وغيرها تضاعفَ سعرُها تقريباً وإضطر مصر لإستيرادها بأسعارها المرتفعة بدون أيّ مقاومة. فمن يكفل عدم تكرار هذه الظاهرة مستقبلاً ومصر تعتمد على الإستيراد بدل الإتكال على نفسها ولو جزئياً.
ثالث عشر: يزداد عدد سكان العالم بواقع 2% سنوياً الأمر الذي سيضاعف حاجة هذا العالم للغذاء بحلول عام 2050 مقارنة بعام 2000. هذا سيجعل بعض الدول تلجأ إلى منع تصدير بعض منتجاتها وتعطي الأولويّة لإستهلاك مواطنيها. وهذا ما حدث بالفعل لدى إرتفاع قيمة المواد الغذائية في أوائل عام 2008 حيث منعت مصر تصدير الأرُز ومنعت الهند تصدير الزيوت النباتية وخفّضت ماليزيا تصدير زيت البلح.