صحيح أن الدولة اللبنانية التزمت " سنّ التشريعات اللازمة للحفاظ على البيئة وسلامة مواردها" لكننا ما زلنا بانتظار هذه التشريعات أن تصدر بقوانين ملزمة لكافة القطاعات.
وإذا كانت سياسة وزارة البيئة واستراتيجيتها تقضيان بوضع " الركائز الأساسية لهذه السياسة" وبوضع " قانون إعادة هيكلية الوزارة" لكننا نخشى بأن تتأخر في تحقيق ذلك نظراً لانشغال الدولة في معالجة المسائل الأكثر إلحاحاً وفي إطفاء الحرائق المتلاحقة وفي عدم توفير الأموال اللازمة لهذه الوزارة كي تعزّز مواردها البشرية.
حبّذا لو قدّر للبنان أن يعتمد " استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتنمية المستدامة" كونها استراتيجية علمية صحيحة تؤدي إلى مساهمة لبنان في المحافظة على المناخ الملائم للإنسان وفي تخفيف التلوّث الناتج عن وسائل النقل وفي استغلال موارده الطبيعية استغلالا ًسليماً يرأف بما وهبه الله لنا وفي المحافظة على الصحة العامة وخاصة لجهة سلامة الغذاء. لكن التنمية المستدامة التي ننشد إنما تتطلب دولة المؤسسات لإحقاقها. فأين نحن من دولة المؤسسات وبالتالي من التنمية المستدامة؟
من البديهي أن يتطلّع لبنان إلى قطاعاته الخاصة لكي تقوم بمهمة التنمية الاقتصادية. الحقيقة هي أن القطاع الخاص في لبنان قد انبرى، منذ اللحظات الأولى لسكوت المدافع وتوقف الاقتتال، إلى القيام بواجبه الوطني في إعادة اعمار لبنان وتهافت العديد من المستثمرين الى الاستثمار بشغف منقطع النظير. لكنهم جميعا،ً باستثناء القطاع المصرفي، تلقوا الصدمة تلو الأخرى جراء ممارسات الدولة المحبطة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. فلم يخسروا أموالهم فحسب بل خسروا إيمانهم بالوطن الجديد.
لو كانت ممارسات الدولة السياسية والاقتصادية ممارسات صحيحة لرأينا مساهمات القطاع الخاص في التنمية المستدامة في لبنان تفوق ال55 % التي أشارت دراسة د. هتجيان لها.
فبالرغم من المؤشرات الإيجابية التي أشارت لها الدراسة عن لبنان في مجالات البيئة في قطاعات الإعلام والتربية والمجتمع الأهلي والقطاع الخاص، يبقى دور الدولة في سن التشريعات هو المحفز الرئيس في وضع المواصفات البيئية للمنشآت وإصدار القوانين البيئية الملزمة للبلديات والمصانع والمزارع والمنشآت السياحية والمستشفيات وغيرها.
فلو كانت الدولة ناشطة فيما تقدم لما جاء تصنيف لبنان بالمرتبة 75 من أصل 173 دولة والسابع بين 18 دولة عربية في مجال التنمية البشرية. ولما احتلّ لبنان المرتبة 106 من أصل 142 دولة في المؤشر البيئي الذي قدم إلي منتدى دافوس الاقتصادي.
حسناً فعل الدكتور برج هتجيان، مدير عام وزارة البيئة، عندما ركّز على أهمية الشراكة والمشاركة بين الدولة والقطاع الخاص بشكل عام والقطاع الصناعي بشكل خاص. إنها إحدى اللفتات المهمة التي تصدر عن مسؤول وكأنها فلتة من الفلتات في أيامنا العصيبة هذه.
نقول ذلك لأنه طالما عودتنا الدولة على إصدار القرارات الاقتصادية، التي يقع على القطاع الخاص مهمة تنفيذها دون استشارته أو إشراكه في منع هذه القرارات. ثمّ يبدأ المدّ والجزر بينهما فتضيع الطاقات ويدبّ الإحباط وتذهب الأحلام والفرص في مهبّ الرياح ويتقهقر بذلك الاقتصاد.
فمشروع تقوية نظام الترخيص والمراقبة في المصانع الذي ركّز عليه الدكتور هتجيان إنما يؤلف نمطاً لم نألفه من قبل. إنه نمط جديد في العمل المنظم الذي يؤدي إلى نتائج لأنه يشرك قطاعات مدنية وأهلية وخاصة ودولية لوضع الأسس وتقديم الاستشارة ودراسة حالة القطاع الصناعي وتقييم احتياجاته لاستدامة تنميته ووضع المعايير والشروط البيئية ووضع برامج المراقبة.
حبذا لو ذهب الدكتور برج هتجيان في دراسته إلى أبعد من ذلك كإدماج مشروع نظام التراخيص والمراقبة في نظام الجودة الكلي TQM وإدراج الاشتراطات البيئية للمشروع في منظومة الـ ISO ومنظومة الـHACCP حيثما تطلب الأمر.
أقول ذلك لأنه أصبح لزاماً على المؤسسات التي تعنى بالجودة والاشتراطات الصحية أن تطبق هذه الأنظمة وتحصل على الشهادات الخاصة بها. وإذا قدر للبنان بأن يتبوّأ مركزاً مرموقاً في سوق التصدير، لا بل أن يحافظ على ما لديه من أسواق، على الدولة أن تقوم بواجباتها في التشريعات المطلوبة وفي إنشاء الأجهزة الرقابية اللازمة كما على القطاع الخاص أن يلتزم المعايير الدولية المعترف بها ويحصل على الشهادات التي تثبت التزامه هذا.
يصعب علينا أن نتصور تحقيق هذه الطموحات في ظل ظروف سياسية طاغية تلقي بظلالها على مؤسسات الدولة غير الكفوءة وغير الجادة. فمشاريع التحديث المختلفة ومنها مشاريع وزارة البيئة تبقى حبراً على ورق ما لم تتحقق الاصلاحات بدءاً بالاستقلال الصحيح ومروراً بالديمقراطية الحقة وبالمؤسسات السليمة التي يديرها أكفاء مخلصين أحراراً. عندها فقط سوف نرى أن القطاع الخاص سيضع ثقله وإمكاناته في خدمة الوطن وينهض بلبنان من كبوة طال أمدها بعد حرب أهلية دمرت اقتصاده.