لقد تشعّب الحديث كثيراً حول وضع لبنان الإقتصادي وتناول العديد من الخبراء الإقتصاديّين والماليّين تحليل الأسباب التي آلت الى هذا الوضع المُتردّي.
أودّ في هذه المداخلة أن أسلّط الضوء على أهمّ تبعات سياسة الحكومات المتعاقبة وسياسة حاكم مصرف لبنان حيال الشأن الإقتصادي والمالي، وتأثيراته على القطاعات الإنتاجية وعلى ارتفاع نسبة البطالة وعلى خسارة الكفاءات اللبنانية من المساهمة في النمو.
فمنذ عام 1992 عمدت الحكومات المتعاقبة دون استثناء على اعتماد سياسة اقتصادية تقضي إلى تحويل لبنان إلى بلد سياحي وخدماتي بإمتياز، أي بلد ريعي عن طريق:
نتج عن هذه السياسة أن:
ومن أجل تعويض النقص الفادح في دخلها ومن أجل توفير الأموال الواجبة لدفع رواتب موظفيها وللقيام بالخدمات على شِحّتها، لجأت الحكومات المتعاقبة الى اعتماد سياسة جهنّمية خبيثة بالتواطئ مع حاكم مصرف لبنان وفي الغالب بتوجيه وتخطيط من الدول الصناعية الغربية. وهنا تكمن الحلقة المُفرغة التي تبدأ بالإستدانة من البنوك اللبنانية بفوائد تفوق عشرة أضعاف الفوائد المعمول بها في الدول الغربية. ولكي تستطيع البنوك تأمين حاجة الحكومات المتعاقبة، إعتمدت سياسة تشجيع المودعين اللبنانيين المُقيمين والمغتربين والسوريين والخليجيين لإيداع مدخراتهم لقاء فوائد مُغرِية فاقت الـ 10% سنوياً على الدولار و 15% على الليرة اللبنانية. نتج عن ذلك أن تدفّقت الأموال الى البنوك اللبنانية التي لم تجِد من يستخدمها لقاء فوائد مرتفعة سوى الحكومات اللبنانية والتُّجار الذين لجأوا إلى الاستيراد ومشاريع بناء المساكن وقلّة قليلة من أصحاب المشاريع الإنتاجية لقاء دعم لفوائد البنوك المرتفعة.
أمّا قدرة مصرف لبنان على تسديد قيمة الفوائد العالية للبنوك اللبنانية فقد تجلّت بإعتماد دفع الفوائد من الإستدانة الجديدة وهي السياسة المعروفة بالـ .Ponzi Scheme فتراكمت بذلك الديون المستحقة على مصرف لبنان لصالح البنوك وتبخّرت هذه الديون في وزارة المالية التي توزّعت بين رواتب القطاع العام ومصاريفه المحدودة وبين الهدر المُمنهج والذي أصبح معروفاً بالسرقات والمُحاصصة والنهب والفساد على مدى الـ 25 سنة حتى اليوم.
جاءت ثورة 17 تشرين الأول 2019 لتُعرّي الحكومة وحاكم مصرف لبنان والبنوك وتفضح سياساتهم. وإذ بالمودعين يُطالبون بإستعادة أموالهم فيُصدَمون بتبخُّرها إمّا بصرفها على يد وزارة المالية أو بنَهبها على يد السياسيين أو بتحويلها الى خارج لبنان لصالح كبار المودعين القادرين والمتآمرين وأصحاب البنوك.
لم يكتفِ مصرف لبنان بهندساته المالية بإفراغ البنوك من مدخرات أصحابها، بل لجأ للإستدانة من بنوك خارجية عجز عن سدّها عندما وقعت الواقعة فأصبح لبنان بلد متخلّف عن سداد ديونه الخارجية.
ولمّا كان المستوردون يعتمدون على توفير العملة الصعبة وخاصة الدولار من البنوك لتمويل مستورداتهم التي وصلت إلى 20 مليار دولار سنوياً كما أسلفنا، ولمّا كان سعر الحصول على الدولار بقيمة محدّدة من مصرف لبنان أي بـ 1507,5 ل.ل. ، ولمّا ووجِهوا بصورة مفاجئة بعدم وجود هذه العملة أخذوا يشترون دولاراتهم من السوق السوداء التي بدأت تزداد قيمتها بالليرات اللبنانية يوماً عن يوم الى أن وصل حالياً الى 4500 ل.ل. للدولار الواحد.
صحيح أنّ التجار ثابروا على استيراد ما كانوا يستوردونه من سلع، لكنّ قيمة هذه السلع زادت ثلاثة أضعاف بينما دخل المواطن والموظف ظلّ كما هو. هنا إرتفعت الإحتجاجات الجماهيرية لأنّ دخلهم تبخّر أمام إرتفاع التكاليف وخاصة المواد الغذائية منها ومعظمها مستورَد.
الجريمة الكبرى تتمثل بالعديد من السياسات المعتمدة وفي التجاوزات المفضوحة وفي الممارسات المخلّة بالأخلاق وبالنزاهة وبالأمانة ومن سوء التصرّف ومن غياب الحكمة، وجميعها مارسها كل رؤساء مجالس الوزراء الذين تعاقبوا على الحكم منذ عام 1992، بإستثناء دولة الرئيس سليم الحص، ومن كل وزراء المالية وكل وزراء الاقتصاد ومن حاكم مصرف لبنان الذي تزعّم طغمة المجرمين.
فلم يسيئوا استخدام ودائع الناس فحسب، بل دمّروا الاقتصاد المنتج فتسبّبوا بإحداث بطالة تفوق 60% ، وبهجرة الكفاءات التي كان من الواجب الإعتماد عليها في نهوض لبنان، وبجعل لبنان بلداً مستعمراً إقتصادياً كما تريده الدول الصناعية التي ساهمت في رسم السياسات الإقتصادية المدمِّرة للأوطان.
جرائم من هذا القبيل وعلى هذا المستوى تستوجب محاكمة كل مسؤول من المذكورين أعلاه على يد محاكم مستقلة وقضاء نزيه وعالِم وقادر غير مسيّس ولا مُستتبع.
هكذا فقط يمكن البدء بورشة الإصلاح والتصحيح والإتيان بحكومات رؤساؤها ووزراؤها عالِمون متخصِّصون غير تابعين ولا معيّنين أو مفروضين من الطبقة السياسية الفاسدة والمفسدة.
المهندس موسى فريجي
musa@musafreiji.com
www.musafreiji.com
21/05/2020