إطلعت على النسخة الرابعة المقتضبة من البيان الوزاري المُعد لعرضه على مجلس الوزراء لإقراره ثم على مجلس النواب لطلب نيل الثقة بموجبه. وبشكلٍ خاص دققت في البند العاشر منه وعنوانه "تحفيز النمو الإقتصادي".
أشار البيان إلى "إتخاذ إجراءات لتطوير الإقتصاد الوطني من إقتصاد ريعي وخدماتي يهجّر الطاقات الشبابية والعائلات إلى إقتصاد منفتح يخلق فرص عمل ويضمن مستقبل أبنائه ويستند على قطاعات صناعية وزراعية ذات قيمة مضافة ..."
عند الدخول في تفاصيل هذا الجزء من البيان، تبيّن لي أنه لا يختلف عن كل البيانات الوزارية على مدى 30 سنة مضت لأنه يتحدث عن "دعم وأي دعم و"تحفيز" وأي تحفيز، إلخ...
لقد غاب عن الوزراء، مُعِدّي هذا البيان، أن الإنتقال من إقتصاد ريعي إلى إقتصادٍ مُنتِج يتطلّب إستثمارات في القطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة. والإستثمارات هذه هي مهمة القطاع الخاص أي المستثمرين اللبنانيين وغير اللبنانيين، المغتربين في مقدّمتهم.
لكن طالما أنّ لبنان ملتزم بتنفيذ إتفاقيات التبادل التجاري الحرّ مع المجموعة الأوروبية ومع الدول العربية والتي تسمح بتبادل السلع والمنتجات المختلفة دون أي رسوم جمركية، وطالما أن الدول المصدِّرة إلى لبنان تدعم إنتاجها وتدعم تصديره دعماً مادياً مباشراً للمنتجين والمصدِّرين، فإن لبنان يستورد منتجات قيمتها أقل من كلفة إنتاجها في بلد المصدر، وبالتالي يعجز المُنتِج اللبناني من منافسة هذه المنتجات المستورَدة فيلجأ إلى التوقف عن الإنتاج كما حدث فعلاً للعديد من المنتجات الصناعية أو الزراعية على مدى الـ 18 سنة السابقة وحتى يومنا هذا. نتج عن ذلك أن توقفت القطاعات الإنتاجية عن إستيعاب الكفاءات الشبابية والعمالة اللبنانية فتم تهجير 25,000 متخرّج جامعي سنوياً وإلى بطالة فاقت الـ 40%.
لم يأتِ البيان على ذكر كيفية "تحفيز النمو الإقتصادي" بشكلٍ عمليّ. إنما أتى على ذكرِ ذلك بشكلٍ إنشائي لا معنى له البتّة. أشار إلى زيادة قدرة التصدير. أي تصدير يتحدث عنه البيان. أهو إنخفاضه من 4,5 مليار دولار سنوياً إلى 2,2 مليار في خلال السنوات العشر السابقة؟ هذا بالرغم من وجود إتفاقيات تسمح للصادرات اللبنانية بدخول الدول العربية والأوروبية دون أي رسوم جمركية.
عبثاً تحاول الحكومة الحالية، كما الحكومات السابقة، من تحفيز الإستثمار في القطاعات الإنتاجية، وهي السبيل الوحيد لنقل لبنان من الحالة الإقتصادية الريعية إلى الحالة المُنتِجة، وعبثاً تحاول تخفيف هجرة الكفاءات الشابة اللبنانية وتخفيض البطالة المستفحلة، إلاّ إذا ما تجرّأت وعقدت العزم على تجميد العمل بإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ مع كل دول العالم. عندها عليها أن تضع رسوماً جمركية فاعلة على كل ما ينتج أو يمكن إنتاجه في لبنان من منتجات زراعية / غذائية أو صناعية لا تقل عن 50% مع حد أدنى للإستيفاء الجمركي، وذلك تحفيزاً للمستثمرين لإنتاج هكذا مواد محميّة بدل إستيرادها وبالتالي خلق فرص عمل لمحتاجيها وما أكثرهم.
إن التردُّد بالقيام بمثل هذا الإجراء ومنذ عشرات السنين إنما هو إنصياع لرغبات الدول المصدِّرة إلى لبنان، وهي دول صناعية تسعى لخلق فرص تصريف إنتاجها بشتى الوسائل وتضغط بعقلية المُستعمِر على الضعفاء من السياسيين وعلى رأسهم سياسِيّو لبنان.
إن إتفاقيات التبادل التجاري الحرّ الموقعة تسمح في حالات إقتصادية ضاغطة لأحد الطرفين بوقف العمل بها أو بتعديل بنود محددة فيها. فلِما لم يلجأ لبنان إلى تجميد العمل بهذه الإتفاقيات كي يحرّر نفسه من قيودها ويحفّز الإستثمار وبالتالي ينقل لبنان من الحالة الإقتصادية المنهارة إلى التعافي ولو تدريجياً؟
إنّ الحكومة الحالية تواجه الآن إمتحاناً وتحديات جمّة. يأتي في طليعتها حلّ مشكلة البطالة وهجرة الكفاءات والإحتفاظ بها لنقل لبنان تدريجياً إلى بلد منتج صناعي وزراعي بإمتياز ينتقل معها من الحالة الريعية إلى المنتجة إلى الصناعية وأخيراً إلى التصدير بعد المرور بإجراءات تخفيض الكلفة وتحسين النوعية.
قد تكون حجة الحكومة بأنّ وضع الرسوم الجمركية سيرفع من كلفة المعيشة ويلزمها على رفع الحد الأدنى للأجور وبالتالي يزيد عبء زيادة رواتب القطاع العام. هذا صحيح. لكنّ وضع رسوم جمركية في المرحلة الإنتقالية من الإستيراد إلى الإنتاج المحلّي يستغرق بعض الوقت. ففي هذه الحالة، ولو طُبِّقَ الإقتراح المذكور في هذه المطالعة لأمكن الحصول على رسوم جمركية مقدارها ثلاثة مليارات دولار سنوياً لم تكن موجودة قبل هذا الإجراء الجديد. وبالتالي فإنها تستطيع أن تستخدم جزءاً من الواردات الجمركية هذه في خدمة زيادة رواتب القطاع العام والتي يجب أن تكون محصورة في الموظفين الذين يتقاضون أقل من مليوني ليرة لبنانية شهرياً.
فلتأخذ الحكومة العبرة من تصرّف الولايات المتحدة الأميركية، وهي أكبر دولة صناعية في العالم وعضو مؤسس لمنظمة التجارة العالمية، كيف تحمي قطاعاتها الإنتاجية بوضع رسوم جمركية مؤثرة على مستورداتها من حلفائها وجيرانها ومن الصين وغيرها غيرَ عابئةٍ بأنظمة المنظمة وبإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ التي أبرمتها.
موسى فريجي
mfreiji@tanmia.com.lb
www.musafreiji.com
04/02/2020