مقدمة تكثر في الآونة الأخيرة المؤتمرات والمنتديات والمقالات والبرامج الإذاعية والتليفزيونية عن معالجة موضوع سلامة الغذاء في لبنان وقد طغى عليها طابع الخطورة على صحة الناس إلى درجة أصبح معه يتساءل المواطن إن بقى هنالك حقاً غذاء سليم متاح له.
أن موضوع سلامة الغذاء ليس بالموضوع الجديد عالمياً. فقد سبقتنا دول عديدة في العالم ووضعت القوانين والتشريعات اللازمة من أجل توفير غذاء سليم لمواطنيها. شملت هذه التشريعات فيما شملت مواصفات قياسية لكل منتج على حده ومواصفات قياسية للمنشآت التي تتعاطى إنتاج وتصنيع وتوضيب الغذاء إبتداءً من المزارع وإنتهاءً بالمنتج المعروض للإستهلاك. يأتي في مقدمة هذه التشريعات قانون سلامة الغذاء والهيئة الوطنية لسلامة الغذاء والتي في معظم الدول أصبحت هيئة مستقلة تشرف على وضع كل القوانين وتبدي مطالعة علمية في كل أمر يستجد. والهيئة هذه تتعاون تعاوناً وثيقاً مع القطاعات المنتجة للغذاء فتوجه وترشد وتتشاور وتصدر التعليمات الممكن تنفيذها وليست المستحيلة. وهي إن فعلت ذلك فلأنها تعلم أن مهمة التنفيذ في النهاية تقع على القطاع الخاص المنتج. فلا بد إذاً من العمل معه يداً بيد بروح التعاون للوصول إلى المبتغى وهو غذاء سليم للمواطنين .
وضع التشريعات في لبنان
أما في لبنان فإن مبدأ التعاون في المطلق، وبكل الأحوال، بين معدّي التشريعات من جهة والذين تقع عليهم مهمة التنفيذ إنما هو غائب تماماً. فقد رأينا ذلك في إبرام الإتفاقات التجارية مع الدول الأخرى، وفي إعداد لبنان للدخول في منظمة التجارة العالمية، وفي إعداد ثم وضع قانون حماية المستهلك، وفي إعداد ووضع قانون حماية الإنتاج الوطني. وإن كان هنالك من مشارك يمثل القطاع الخاص فإنه كان دائماً منحصراً في غرف التجارة التي غلب على رؤسائها وأعضائها الصفة الرسمية أكثر منها الصفة الممثلة لقطاع الخاص وإستبعدت الجمعيات والنقابات والتي هي في الواقع منبثقة من القطاعات الإنتاجية والقاعدة العاملة على الأرض. فالمواصفات القياسية اللبنانية تمّ وضعها بتمثيل ضعيف للقطاع الإنتاجي وتمثيل كبير لكنه غير متخصص للوزارات المختلفة. وغالباً ما لا يؤخذ برأي ممثلي المنتجين بحجة أن رأيهم يغلب عليه النفع الخاص. ونتيجة لهذا الوضع الشاذ نرى أن المواصفات القياسية قد بنيت على مواصفات بعض الدول الأخرى وأُخذ الأكثر تشدّداً من كل منها كأساس الأمر الذي أوصلها إلى درجة تتعدى معه المواصفات القياسية العالمية " كودكس المنتاريوس ".
وقانون حماية المستهلك هو قانون جائر. فروحيته مبنيّة على أن المحترف، صناعياً كان أم تاجراً أم حرفياً، يبغي غش المستهلك في كل تصرفاته وعليه وجب حماية الأخير من عبثه والعمل الجاد على كشف الغش الذي لابد وأنه مخبأ في مكان ما. هذه هي القاعدة. أما الإستثناء فهو الفشل في كشف الغش وليس الثقة بنيّة المحترف في تقديم الصالح للمستهلك أي العمل الشريف لكسب الرزق الحلال. من هنا جاءت العقوبات في الفصل الخامس عشر من القانون جائرة لا تترك للخطأ غير المتعمد مجالاً بل تعاقب المحترف أقصى درجات العقوبة لا توازيها إلا جرائم التعدي والسرقة.
أعطى قانون حماية المستهلك المراقبين التابعين لمديرية حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد حق تحرير المخالفات وإحالتها إلى المدعي العام التنفيذي وفتح ملف بحق رئيس مجلس إدارة الشركات المنتجة لمحاكمته جزائياً دون أي تنبيه أو إنذار أو مساءلة ودون التأكد من سبب المخالفة ولا مقدار ما تمثله العينة المخالفة من مجمل الإنتاج أو المعروض في الأسواق. والمراقب هذا يرسل عينات من المنتج المراقب إلى مختبرات الحكومة، وهي مختبرات غير معتمدة على يد جهات إعتماد عالمية للتأكد من صحة البروتوكولات المتبعة في الفحوصات. وإنتقاء العينات يجري بدون مرافقة صاحب العلاقة. فهذا الأخير لا يرى نفسه إلا أمام القضاء وفي كثير من الأحيان تثبت براءته لكن بعد أن يكون قد ذاق الأمرّين وكفر بإنتمائة وعمله في بلد لا يحترم حقوق الإنسان.
وللتدليل على غوغائية التعاطي مع المحترف نورد فقط مثل السلمونيلا الذي سلطت عليه وسائل الإعلام الضوء. فنقول بأن المواصفات القياسية اللبنانية حدّدت نسبة السلمونيلا بصفر بالمواصفة رقم 195/2005 الخاصة بلحم الدواجن. كما أن لمراقب مديرية حماية المستهلك حق أخذ عينات بدون حضور المنتج وإرسال واحدة وليس أكثر من أصل المئات المعروضة إلى مختبر الحكومة غير المعتمد وفي الحالة الإيجابية يمكنه منفرداً تحضير ضبط وتحويله للمدعي العام لملاحقة رئيس مجلس إدارة الشركة المنتجة للمحاكمة الجزائية والتي قد تفضي إلى تغريم الشركة مبالغ طائلة وقد يتعرض المتهم لعقوبة السجن أيضاً وذلك إستناداً إلى قانون حماية المستهلك الجائر .
وفي المقابل نجد أن المؤسسة الأمريكية المناط بها مسؤولية مراقبة سلامة الغذاء FSIS وكذلك الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء EFSA تعتمدان برنامجاً إرشادياً ومواكبة متلاحقة من أجل ما يسمى " مستهدف التخفيف من حملات السلمونيلا " في أوروبا: Salamonella Reduction Target ( EU regulation No.1003/2005 and No.1168/2006 ).
أو " معيار تخفيف السلمونيلا " في الولايات المتحدة : Salmonella Reduction Performance Standards (9th code of Federal Regulation part 304 et seq.) وهذه البرامج وصلت الآن إلى حد فرض الحصول على شهادة سلامة الغذاء HACCP للمؤسسات التي تتعاطى إنتاج أو تصنيع أو تحضير الغذاء من مسالخ ومطابخ ومطاعم، كما وصلت إلى تحديد حد أقصى لنسبة وجود السلمونيلا في لحوم الدواجن والحيوانات الكبيرة والسمـك من مجمل العينـات المأخوذة وهي تتـراوح الآن بين 10 و 20 % للدواجـن الكاملة و 30-45 % للحوم الدواجن المفرومة الطازجة. وهي ساعية للتعاون مع كافة هذه المؤسسات للتخفيف التدريجي من وجود السالمونيلا سنة بعد سنة.
أما العقوبات المعتمدة في أوروبا وأميركا فهي تتوقف عند حدود إقفال المؤسسات غير الحاصلة أو غير المجددة لشهادة سلامة الغذاء HACCP وحدود إتلاف المنتجات التي تتعدى المستوى المقبول والمعمم ولا تصل إلى حدّ المحاكمة أو فرض الغرامات أو السجن بتاتاً. وقد رفض الكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي حتى الآن المعاقبة لوجود سلمونيلا بالمنتجات طالما فشل العلماء حتى الآن بتحديد المستوى الخطر للسلمونيلا وغيرها المتواجدة في المواد الغذائية .
الحلـول لما كانت الدولة اللبنانية منذ الإستقلال وحتى الآن قد إعتمدت الوسيلة البوليسية في التعامل مع موضوع سلامة الغذاء دون أن توصل المواطنين إلى غذاء سليم فأنني أرى أنه أصبح لزاماً على الحكومة الحالية ومجلس النواب الإسراع في إصدار قانون سلامة الغذاء القابع في مجلس النواب منذ سنوات وتعيين الهيئة القومية للغذاء على أن تناط بهذه الهيئة كافة مسؤوليات سلامة الغذاء من تشريعات وقوانين ومراسيم وتحديد مسؤوليات التنفيذ. على الهيئة أن تولي الأمور التالية إهتماماً خاصاً :
أولاً : وضع تشريعات وقوانين تلزم المؤسسات التي تتولى إنتاج المواد الغذائية بدءاً بالزراعة والمزارع ومراكز الإنتاج ومروراً بالمخازن والمشاغل والثلاجات وإنتهاءً بالمطاعم ومنافذ البيع بإعتماد إجراءات الأمن الحيوي Biosecurity وهي إجراءات محددة لكل نوع من أنواع الإنتاج أو المؤسسات وأصبحت واسعة التعميم في البلدان المتقدمة. وهذه الإجراءات تؤدي في حالة إعتمادها بدقة إلى سهولة الحصول على شهادة سلامة الغذاء HACCP أو ISO 22000 أو غيرها. من المفترض أن تعطى هذه المؤسسة المهل الضرورية لتوفيق أوضاعها .
ثانياً : إلزام كل المؤسسات التي تتعاطى إنتاج وبيع الغذاء للحصول على شهادة سلامة الغذاء HACCP أوISO 22000 تحت طائلة الإقفال المحدد أو الدائم حسب تكرار سحب الشهادة وذلك بعد إعطائها المهل الضرورية لتوفيق أوضاعها.
ثالثاً : تعديل المواصفات القياسية اللبنانية لبعض المنتجات بالتشاور مع القطاع الخاص حتى تصبح عادلة وتتماشى مع المواصفات القياسية العالمية - " كودكس المنتاريوس ".
رابعاً : تعديل قانون حماية المستهلك لجهة تسميته أولاً ثم لجهة إلغاء عقوبة السجن والتخفيف من مقدار الغرامات وإلغاء إستفادة القضاء ومراقبي مديرية حماية المسهتلك من الغرامات.
خامساً : إلزام المختبرات العاملة على الأراضي اللبنانية سواء الرسمية أو الخاصة بوجوب الحصول على شهادة إعتماد دولية Accreditation كي يمكن إعتماد نتائجها بصورة رسمية.
سادساً : تحديد مسؤوليات كل وزارة على حدة حيال تنفيذ قانون سلامة الغذاء ومنع الإزدواجية بين عمل الوزارات