تتتالى احتجاجات الصناعيين والمزارعين، اي أصحاب القطاعات الأنتاجيّة في لبنان، حول سوء معاملة الحكومة لهم من حيث تعريضهم لمنافسات القليل منها ما يُعتَبَر مَشروعاً والكثير غير مشروع في كل المقاييس.
إنّها لمأساة حقاً أن يجد المنتج في لبنان نفسه مقهوراً فيضطر إلى إغلاق مؤسسته ومورد رزقه وبالتالي صرف موظفيه وعمّاله.
يبدو أنّ مفهوم الوزراء المتعاقبين على وزارات الأقتصاد والمالية كان وما زال يعتمد على مبدأ تشجيع استيراد أي منتج يكون سعره أقل من مثيله المنتج في لبنان بحجة انّ ذلك يخدم مصلحة المستهلك اللبناني وهذه بنظرهم تفوق مصلحة فئة محدّدة من المنتجين لأي نوع من أنواع الأنتاج.
لكن خفي ويخفى على هؤلاء الوزراء وكافة المسؤولين الذين يعاونوهم بأنّ وراء قدرة المستوردات المنافسة للأنتاج المحلي الكثير الكثير من الوسائل المساعدة على انخفاض كلفة انتاجها مقارنةً مع كلفة انتاج مثيلها في لبنان. من هذه الوسائل ما يلي:
توفير بعض مدخلات الأنتاج بأسعار متدنيّة مقارنةً مع أسعارها العالمية كالطاقة الكهربائية والمحروقات في بلدان تتوفر لديها المحروقات كدول مجلس التعاون الخليجي ومصر والجزائر وغيرها.
دعم الأنتاج الزراعي في دول الأتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية دعماً كبيراً.
دعم تصدير المنتجات الصناعية والزراعية في عديد من الدول ومنها دول الأتحاد الأوروبي والصين وتركيا وغيرها.
هذه الميزات التي توفرها بعض الدول لمنتجيها تمكّنهم من ولوج أسواق كلبنان ومنافسة المنتج اللبناني وإذلاله. فكيف يرضى المسؤولون اللبنانيون عن السياسة الأقتصادية من حدوث ذلك دون أي وخز لضميرهم.
من الواضح انّ هؤلاء المسؤولين يفتقدون الحسّ بالمسؤولية تجاه مواطنيهم وإنّ حجتهم بحماية أو مساعدة المستهلكين هي حجة واهية كون المستهلكون مكّونين من فئات تعمل في مجالات مختلفة يقتضي رعاية مصالح كلّ منهم دون استثناء. فكم من مرة رأينا الدولة ذاتها تزيد من أسعار بعض السلع التي تجني منها ربحاً كالمحروقات مثلاً أو تفرض رسم القيمة المضافة وتسعى لزيادته أو تضع رسوماً محدّدة أو ترفع الحد الأدنى للأجور، كلّ ذلك دون الأكتراث بما ستفعله اجراءاتها من زيادة في كلفة المعيشة على المستهلك. فلماذا تعامل المنتجين اللبنانيين بغير هذا المفهوم إن هم طالبوا بحمايتهم جمركياً من المنافسة غير المشروعة التي تواجههم من المستوردات المدعومة؟
على هؤلاء المسؤولين أن يدركوا أهمية تنويع مصادر الدخل وتوفير فرص العمل للّبنانيين. فلا يجوز أن يعتمد الأقتصاد اللبناني على القطاعات الخدماتية وحدها كالسياحة والمصارف والعقارات والبناء لأن أي هزّة أمنيّة سوف تلحق بكل هذه الموارد ضرراً فادحاً. لذلك يجب تعزيز القطاعات الأنتاجية صناعية وزراعية على السواء. فهذه الخطوة وان تطلّبت الحماية الجمركية لبعض أو حتى معظم المنتجات لها حسناتها الكثيرة والهامة التالية:
توفير فرص عمل لمحتاجيها من خرّيجي الجامعات والمدارس المهنية وعددهم يفوق الخمسة وعشرين ألفاً سنوياً.
تعميم النشاط الأقتصادي على كافة المحافظات وعدم حصرها بمناطق محددة كبيروت وجبل لبنان وبالتالي منع الزحف السكاني من المحافظات المحرومة إلى بيروت.
المساهمة في توفير الغذاء والأكتفاء الذاتي خاصةً في ظل زيادة عدد سكان العالم 50% بحلول عام 2050 عمّا كان في مطلع هذا القرن وضرورة استغلال كل الأماكن الممكن زراعتها وتصنيع جزء كبير من المنتجات الزراعية في كافة أنحاء العالم.
الأهتمام بالأرض ومنع انجرافها أو تصحرها وبالتالي التأثير على البيئة.
فتح مجالات عديدة وهامة أمام اللبنانيين للأبتكار والتنويع وتحسين الجودة وتخفيف الكلفة.
من هنا فإنني أناشد المسؤولين في السياسة الأقتصادية إعادة النظر بكل اتفاقات التبادل التجاري الثنائيّة والجماعيّة على السواء وعدم الدخول بمنظمة التجارة العالمية إلاّ بالشروط التي تخدم مصلحة الصناعة والزراعة في لبنان. فالتعديلات المطلوبة على الأتفاقات المبرمة يجب أن تلحظ اعتماد حماية جمركية فاعلة على كل المنتجات الصناعية والزراعية التي تنتج أو يمكن أن تنتج في لبنان. إنّ مثل هذه السياسة سوف تطلق العنان لتطوير المصانع والزراعات الموجودة وتنشىء مصانع وزراعات جديدة تحلّ محل المستورد منها دون الأنشغال بِهمّ إيجاد اسواق للتصدير خاصةً وانّ كلفة الأنتاج في لبنان مرتفعة. ولو قدّر لبعض المنتجات أن تجد الفرص المؤاتية للتصدير إلى بلدان العالم فهذا أمر مرّحب دون شك. لكن لو علمنا بأن مستوردات لبنان عام 2008 بلغت قيمتها 16 مليار دولار منها منتجات قيمتها 8 مليارات يمكن انتاجها في لبنان عوضاً عن استيرادها. وفي المقابل بلغت صادرات لبنان 3.5 مليار دولار أي فقط 22 % من قيمة المستوردات. لو أخذنا هذه الأرقام بعين الأعتبار لأدركنا ضرورة وأهمية تحفيز الأستثمار في القطاعات الأنتاجية وبالتالي توفير فرص عمل وتنمية الأقتصاد وتفعيله بطريقة سليمة وعادلة ومعمّمة.
لو نظرنا إلى نشاطات اللبنانيين العاملين في كافة أنحاء المعمورة لوجدناها متنوعة وفاعلة ومساهمة في تحسين اقتصاد البلدان التي يعملون فيها. تشمل هذه النشاطات الصناعية والزراعية. من هنا يمكن الأستنتاج على انّ اللبناني متفوق حينما تكون الفرص أمامه مهيّئة وعادلة. فإذا كان ناجحاً بل متفوقاً خارج لبنان فمن غير المعقول ألاّ ينجح في لبنان شريطة أن تتوفر أمامه فرص النجاح عن طريق عدالة المعطيات من قوانين وقرارات.
أقول للمسؤولين ومخططي السياسات الأقتصادية كفى الأستخفاف بالمنتجين اللبنانيين واعتبارهم متخلّفين غير قادرين على منافسة أقرانهم في دول اخرى في العالم وكفى الأستهتار بالصناعة والزراعة وعدم اعتبارها ركائز هامة في الأقتصاد الوطني.