كثُرت التحاليل والدراسات والمقابلات التي تحدّثت عن الأسباب المتعدّدة لتراجع الوضع الاقتصادي في لبنان منذ ما بعد الحرب الأهليّة. لكنّها فشلت في الإضاءة على الأسباب السياسية التي ساهمت في ذلك، حيث أنَّ السياسة بحدِّ ذاتها والسياسات الاقتصادية هي المسؤولة عن هذا التراجع والانهيار.
المشكلة تكمُن حصراً في تبعيّة الحكومات المتعاقبة لإملاءات الدول الغربية في وضع قوانين أدّت الى تراجع الاقتصاد. ومن أجل تحقيق هذا الهدف السيّء كان لا بدّ من تسليم مقدّرات لبنان الاقتصاديّة والماليّة لمن لديه الاستعداد لتنفيذ هذه الإملاءات الهادفة أصلاً لِمنع تقدّم لبنان اقتصاديّاً.
لم يكن رفيق الحريري خبيراً اقتصاديّاً لكنّه قَبِلَ ما طُلِبَ منهُ بتعيين وزراء ماليّة واقتصاد من خرّيجي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المملوكَين من الصهيونية العالمية. فجاء بباسل فليحان لتولّي وزارة الماليّة، وبرياض سلامه لتسلّم البنك المركزي، ثمَّ تبعهم فيما بعد سامي حدّاد وجهاد أزعور. جميعهم تتلمذوا وعمِلوا في هاتين المؤسّستَين الماليّتين الكبيرتين في الولايات المتحدة الأميركية. أمّا عن فؤاد السنيورة ملِك العمالة، فحدِّث ولا حرَج.
ففي طليعة الدروس التي تعلّموها، إن لم نقُل أنَّهم كُلِّفوا لتنفيذها، هي ضرورة الانفتاحالانفلاشي في الاستيراد عن طريق:
أ. الانضمام الى منظّمة التجارة العالميّة.
ب. تخفيض معدّل الرسوم الجمركية الى ما دون الـ 5%.
ج. توقيع اتفاقيّات تبادل تجاري حرّ مع دولٍ ومنظّمات وإضفاء الصفات القانونية عليها.
وبسبب ذلك، أصبح لبنان يعتمد على استيراد كل حاجاته وخاصّة المعيشية منها من دولٍ يتمّ دعم إنتاجها ودعم تصديرها، وكلاهما يجعلان منافسة الإنتاج الوطني شبه مستحيلة. وعليه، مُنِعَ لبنان، البلد النامي، من التطوّر في الإنتاج الزراعي والصناعي إلاّ بأقل الحدود، وتحوّلَ الى بلدٍ ريعيٍّ خاضع ومعرّض للمجاعة في أي لحظة أمنيّة حاسمة. أضِف الى ذلك عدم القدرة على توفير فرص العمل للمتخرّجين وخسارة ستّة مليارات دولار سنويّاً بالتالي، وهي الفارق بين كلفة تنشئتهم وما يورّدوه لأهاليهم من بلاد الاغتراب.
لم يتمّ كلّ ذلك الاّ بالعمالة المفروضة من الدول الغربيّة على لبنان وتنفيذ مخطّطاتهم الإجرامية على يد رؤساء حكومات ووزراء وقضاة وهيئات أمنيّة مختلفة بالترغيب والترهيب، أي بالقوّة الناعمة شكلاً والغليظة فعلاً.
في ظلّ التراجع في الإنتاج الوطني أو حتى غيابه إرتفعت ظاهرة الاستيراد بطرق شرعيّة وغير شرعيّة. وبالرغم من محدودية الرسوم الجمركية على المستوردات،كما أسلفنا، تفشّت ظاهرة الغش في المستندات والغش في حجم البضائع أو وزنها، وكلّها تُعتَبر تهرّباً من الضرائب المنخفضة أصلاً.
هذا من جهة. ومن الجهة الأخرى، تعثّر المواطنون من دفع الرسوم والضرائب، الأمر الذي أدّى الى انخفاض دخل الدولة أمام مصاريفها والمتوجّبات. لجأت الى الاستدانة من البنك المركزي الذي دخل في المؤامرة بإغراءالبنوك بفوائد مرتفعة لتفريغها من أموال المودعين. وهكذا حصلَ الانهيار الشامل كما خطّط له المستعمِرون الغربيون وفي مقدّمتهم الولايات المتّحدة الأميركية بقيادة اللوبي الصهيوني.
وممّا زاد الطين بلّة هو تغطية السياسة المدمّرة للاقتصاد بإنشاء ما سُمّيَ بالهيئات الاقتصادية من بينها الغرف التجارية وجمعيّة التجّار وجمعيّة المصدّرين والمجلس الاقتصادي الاجتماعي والتي يتزعّمها تجّاراً أو مصدّرين دون أن يكون بينهم مُنتجون لبنانيون. ومهما قيلَ عن أهميّة التصدير، فها هو الميزان التجاري يتكلّم عن ذاته بالفارق الكبير لصالح الإستيراد الذي بلغ 16-17 مليار دولار سنويّاً. وهذه الفئة المتحكِمة السيئة تقف في وجه أي توجّه لزيادة الرسوم الجمركية على الكماليّات وعلى كل ما يُنتَج أو يمكن انتاجُه في لبنان ممّا لا يؤثِّر على الفئة المتوسّطة والفقيرة من المواطنين، بل يسدّ العجز الحاصل في ايرادات الدولة لكي تتمكّن من إنصاف موظّفيها من كافّة الفئات.
ففي دراسة مفصّلة أجرَيتُها حول الزيادة المقترحة في الرسوم الجمركيّة بيّنتُ فيها بأنّ بمقدور الدولة تحصيل ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار سنويّاً تكفي لتغطية رواتب عادلة لموظفي القطاع العام، كما وتوفير الكهرباء وإصلاح البُنى التحتيّة. أتت كل هذه الرسوم من الكماليّات المتمثّلة بالسيارات الفخمة والمجوهرات والألبسة المميّزة والمأكولات المصنّعة التي يتمّ صنع مثيلها في لبنان.
خلاص لبنان هو بخلاصه من المرتهنين من العمالة من أحزاب بعينها، ومن قضاة في المراكز النافذة، ومن رؤساء وزارات ووزراء تابعين لإملاءات السفارات النافذة والدول الغربية الظالمة، ومن معظم ممثّلي القطاعات الخاصّة ذوي المصالح الخاصّة. كلّ ذلك يتطلّب انقلاباً نظيفاً على يد شرفاء من قوى أمنية شريفة ذات ماضٍ مشرّف، وإلاّ سيبقى لبنان غارقاً بالفساد والعمالة الى الأبد.