إقتصـاديات إنـتاج بـيـض المائدة ولحوم الدواجن في لبنان

May 20, 2011 Musa Freiji Articles

مقدمة يبلغ عدد سكان لبنان حالياً 4,3 مليون نسمة يعتاش 30 % منهم من الزراعة أي 1,3 مليون نسمة .

أما المتعاطون بتربية الدواجن بشكل مباشر فلا يتعدى عددهم الأربعة ألآف نسمة .

لكن المعتاشين من هذه الصناعة نظراً لإرتباطهم بها بالخدمات أو التجارة إضافة إلى الإنتاج وإعالة القاصرين فيصل عددهم إلى 30,000 نسمة . يشمل العمل في هذه الصناعة تربية الأمات المؤصلة ، وهي مستوردة بسبب عدم وجود مشاريع جدود الدواجن المنتجة للأمات - تفريخ بيض التفقيس بالمفرخات الآلية - تربية الدجاج البيّاض لإنتاج بيض المائدة - تربية دجاج اللحـــم ( الفرّوج ) – تصنيـــع الأعلاف اللازمة لكل هذه الطيــور - مراكز توضيب بيض المائدة – مسالخ الدواجن – إستيراد وتوزيع اللقاحات والفيتامينات والمعادن النادرة - إستيراد وتوزيع الحبوب والكسب العلفية والزيوت النباتية – إستخدام جزء كبير من نخالة القمح إنتاج المطاحن المحلية – إستيراد وتوزيع الأدوية البيطرية والمعقمات – إستيراد وتوزيع معّدات الدواجن من معالف ومشارب ودفايات ومراوح وخلايا تبريد وغيرها – تصنيع وتوزيع كراتين البيض – تصنيع وتوزيع الصناديق الكرتونية للبيض ولحوم الدواجن المصنِّعة – تصنيع وتوزيع أقفاص الدواجن الحية والمذبوحة والمقطّعة – تصنيع لحوم الدواجن وطهيها – إستخدام المحروقات والطاقة الكهربائية – إستخدام السيارات المجهزة لنقل البيض ولحم الدواجن المبردة وصيانتها وإصلاحها – إستخدام قطع التبديل لكل الآليات المستخدمة كما وإستخدام الفنيين لصيانة وإصلاح هذه الآليات – إستخدام البنوك ووسائل الترويج إلخ ....

أمّا فئات العاملين في هذه الصناعة فتشمل إضافة إلى أصحاب المشاريع ، الأطباء البيطريين والمهندسيين والزراعيين والإداريين والمحاسبين والسائقين والفنيين ذات المهن المتعددة والصناعيين والمستوردين والتجار والموزعين ومؤدي الخدمات المختلفة . كل هذه الفئات تعمل في نهاية المطاف لإنتاج بيض الأكل ولحم الدواجن . وعليه فإن تحليل إقتصاديات الإنتاج سوف تنحصر في هاتين المادتين اللتين يطلبهما المستهلكون .

إنتاج بيض المائدة بلغ إنتاج بيض الأكل عام 2008 في لبنان حسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة 831 مليون بيضة تم تصدير 108 مليون بيضة منها إلى العراق والكويت . فيكون معدل إستهلاك الفرد في السنة 171 بيضة بإعتبار أن لبنان لا يستورد بيض مائدة وإن تهريبه من سوريا يكاد لا يذكر نظراً لتقارب كلفة الإنتاج في البلدين . والجدير ذكره أن المعّدل العالمي لإستهلاك بيض الأكل كان 161 بيضة عام 2008 بينما معدل إستهلاك الفرد في الدول الصناعية بلغ 293 بيضة . من المفيد أن نذكر بأن البيض هو غذاء كامل كالحليب يحتوي على العناصر الغذائية كاملة من بروتين ودهون وفيتامينات ومعادن وكل بيضة وزنها 60 غراماً توفر غذاءً يوازي نصف ليتر من الحليب . وشـّتان بين سعر الإثنين .

المطلوب إذاً هو حملة توعية من الحكومة ومن قطاع إنتاج بيض الأكل للمستهلكين ليعرّفوا على هذه الحقيقة الهامة فيقبلوا على زيادة إستهلاك بيض الأكل على حساب مأكولات أخرى بحيث يرتفع إستهلاك الفرد من 171 بيضة إلى 250 بيضة أو أكثر . هذا الأمر يفتح مجالاً لا لإستيعاب ما يتم تصديره حالياً بأسعار متدنية ، بالرغم من الدعم الذي يحصل عليه المصدرون فحسب ، بل إلى زيادة حجم الإنتاج ليواكب الطلب المتزايد محلياً ويخلق فرصاً جديدة للمزارعين الحاليين لزيادة إنتاجهم أو لإنضمام مزارعيين جدد لإنتاج بيض الأكل .

هذا وأننى أقدر أنه بحلول عام 2018 سوف يتخطى إنتاج بيض الأكل في لبنان المليار بيضة أي بزيادة 30 % دون أي مجهودات ترويجية وإلى 1,3 مليار بيضة مع حملات الترويج المشار إليها آنفاً .

قصة إنتشار مزارع إنتاج بيض الأكل في لبنان تعود إلى عام 1960 حيث كانت بدايتها متعثرة بسبب إستيراد بيض الأكل المبرد من دول أوروبا الشرقية بأسعار إغراقية أي بأسعار أقل من الكلفة الحقيقية لإنتاجه . كان هذا النهج معتمداً من هذه الدول بسبب حاجتها الماسة للعملة الصعبة وبسبب وضع يدها على كل مفاصل الإقتصاد . ولبناننا الحبيب الفاتح ذراعيه للأرخص دائماً كان يستقبل من جملة ما يستقبل بيض المائدة المبّرد رخيص الثمن . بالرغم من حداثتي في السن ونظراً لعلاقتي مع المنتجين في البقاع رأيت أن أعرض على وزير الإقتصاد في حينه رفيق نجا موضــوع رســـم 6 قروش لبنانية على البيضة المستوردة تشجيعاً للإنتاج المحلي . مع أنه لم يكن طلباً سهلاً عليه لكنه وبسبب إقتناعه وإقناع رئيس الوزراء رشيد كرامي وافق مجلس الوزراء على وضع هذا الرسم فإنطلق إنشاء مزارع إنتاج البيض بسرعة قصوى . فمن إنتاج ضئيل جداً في الأرياف عام 1958 إلى 500 مليون بيضة سنوياً بحلول عام 1964 حيث كان يتم تصدير 50 % من هذا الإنتاج إلى الكويت والسعودية والأردن والإمارات العربية . ظّل الإنتاج والتصدير على هذه الحال إلى عام 1975 حيث جاءت الحرب الأهلية لتدمـّر ما بُني من إنتاج ومن أسواق تصدير . لم تنتظر الدول العربية التي كانت تستورد من لبنان طويلاً . فقد إنطلقت كل منها سواء بالمبادرة الفردية كسوريا والأردن والعراق والكويت والإمارات العربية أو بدعم وتشجيع الدولة كالمملكة العربية السعودية والعراق لإنشاء مزارع إنتاج بيض الأكل بسرعة حتى أضحت كلها تقريباً عدا الإمارات والكويت مكتفية ذاتياً . لا بل أخذت السعودية ، وبسبب الدعم المباشر من الدولة ، تصدر ما تحتاج إليه دول الخليج .

ومنذ توقف الإقتتال عام 1990 حتى الآن لم نجد أي تطور يذكر في تحديث مزارع إنتاج بيض الأكل ولا محاولة تخفيف كلفة إنتاجه . وعليه فإنني أرى أن مستقبل هذا الإنتاج وزيادته إلى الحدود التي أشرت إليها سوف يعتمد على مبادرة القادرين من منتجين حاليين أو جدد لإنشاء مزارع حديثة تعتمد تربية الدجاج البيّاض بالأقفاص وبكثافة عالية مع إعتماد كل إشتراطات الأمن الحيوي بالإنشاء أو بالإدارة وإعتماد فكر الترويج لرفع مستوى الإستهلاك الفردي . لن يستهدف هذا التوجه إنتاجاً مخصصاً للتصدير لأن كلفة الإنتاج في لبنان لا تسمح له بمنافسة المنتج في بلدان أخرى كأوكرانيا مثلاً المنتجة للأعلاف بأسعار إقتصادية والتي أخذت مؤخراً تصدر إلى العراق ليحلّ إنتاجها محل الإنتاج اللبناني والذي عانى الأمّرين بسبب الأسعار المنخفضة في سوق العراق خلال 14 شهراً متصلة الأمر الذي كبّد كل منتجي بيض الأكل في لبنان خسائر فادحة بالرغم من البقية الباقية من دعم التصدير .

ودعم التصدير هذا هي بدعة لا نفع منها خاصة إذا أتت من دولة مفلسة كلبنان لأن في المحصلة النهائية ينتفع المستهلك في بلد المقصد من إنخفاض سعر البيض اللبناني نتيجة الدعم وليس المزارع اللبناني كما هو مؤمّل وكما حصل فعلاً . لمّا كان بيض المائدة يطلب دائماً طازجاً غير مبّرد فإن إمكانية إستيراده من بلد أقل كلفة من لبنان كأوكرانيا مثلاً تبقى ضعيفة . وتشير الإحصاءات العالمية بأن التبادل التجاري لبيض الأكل بين دول العالم لا تتعدى 1,95 % وهو يحصل في بلدان متقاربة جغرافياً بحيث يصل البيض المصدر طازجاً خلال يوم أو يومين . وعليه يمكن الركون إلى إستمرارية إنتاج بيض الأكل لتغطية السوق اللبناني دون أي خوف من تهديده بالمستورد . لكن لا بد من التشديد على ضرورة إلزام أصحاب المداجن بإتباع إشتراطات الأمن الحيوي بمزارعهم عن طريق إحداث التغييرات البنيوية أولاً ثم إتباع إجراءات محددة للتخفيف من حصول الأمراض وخاصة البكتيرية منها كالسالمونيلا . وفي هذا الصدد على وزارة الزراعة أن تعّمم إشتراطات الأمن الحيوي على المزراعين وتعطيهم مهلة محددة للتنفيذ والتقيد تحت طائلة عدم إعطاء ترخيص التشغيل أو عدم تجديده .

إنتاج لحم الدواجن بدأت تربية الفروج في لبنان بمزارع تجارية إعتباراً من أوائل 1957 لكن على نطاق ضيق جداً . بدأت تنتشر في عام 1962 وبعدما أقرت الحكومة رسم 30 % على الدواجن المجلدة المستوردة فوصل الإنتاج إلى الكفاية بحلول 1967 لكنه لم يتعداه إلى التصدير بسبب كلفة الإنتاج المرتفعة وعدم إمكانية تصديره إلا مجلداً . ظل الحال كما هو إلى أن بدأت الحرب الأهلية عام 1975 فتراجع حجم الإنتاج ، بإقفال العدد الأكبر من مزارع الفروج ، إلى 25 % مما كان عليه قبل الحرب وإعتباراً من عام 1990 عندما إستقر الوضع الأمني راح عديد من المزراعين يبنون مزارع غير مرخصة في مناطق نائية في عكـّار ومحافظة الجنوب .

وكونها غير مرخصة جاء بناؤها متواضعاً جداً لا يختلف كثيراً عن حالة المزارع التي كانت وما زالت قائمة منذ 1975 أي أنها لا تستوفي الشروط السليمة لتربية الفروج . كانت هذه الطيور تسوّق بطريقتين 25 % منها حّية يتم ذبحها لدى الملاشات المنتشرة في عديد من المدن والقرى و 75 % في مسالخ متفاوتة التجهيزات لكن كلها دون إستثناء لم تكن تستوفي الشروط الدنيا للنظافة والسلامة الغذائية . وقد أظهرت دراسة خاصة أعّدها البنك الدولي عام 1996 ، بعد أن قام بجولة ميدانية ، بأن لبنان بحاجة إلى مزارع تربية الفروج ومسالخ حديثة توفر الإنتاج الإقتصادي والسليم في آن معاً .

فما كان من شركة التنمية الزراعية إلاّ أن إتخذت قراراً ببناء مزارع مقفلة معزولة مبردة صيفاً ومدفأة شتاءاً مزودة بأحدث المعدات الآلية تعتمد العمر الواحد في المزرعة الواحدة في آن واحد .

كما قررت بناء مسلخ آلي يراعي أعلى شروط النظافة والأمن الحيوي ويعالج المخلفات الصلبة والسائلة والغازية بطريقة حديثة وبموافقة وزارة البيئة . وهكذا دفعت تنمية غيرها من بعض المنتجين في لبنان لمجاراتها بتأسيس مزارع مغلقة ومسالخ حديثة ما زال يزداد عددها حتى الآن على حساب المزارع المفتوحة والمسالخ البدائية . وصل إنتاج الفروج في لبنان عشية الحرب الأهلية أربعين مليون سنوياً وكان هذا يمثل الحاجة الإستهلاكية التي تساوي 20 كيلو للفرد الواحد . وفي عام 2008 وصل الإنتاج إلى 48 ألف طن حسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة وهذه تمثل 11,5كيلو للفرد الواحد بينما يقدر إستهلاك الفرد في ذلك العام 25 كيلو مما يعني ان الفارق وهو 57 ألف طن تم إستيرادها . لدى مراجعة إحصاءات الجمارك اللبنانية تبيّن بأن حجم الإستيراد هو 9,07 ألف طن الأمر الذي يعني أن 48 ألف طن تم تهريبها شهرياً من سوريا أو عبر المراكز الجمركية خلال عام 2008 أي كمية ممثالة لإنتاج ذلك العام .

وفي تقديري أن حجم الإستهلاك في عام 2018 سيصل إلى 134 ألف طن أي 27,3 كيلو للفرد منها 53 ألف طن منتجة محلياً و 81 ألف طن يتم إستيرادها أي أن الزيادة في الإنتاج سوف تكون طفيفة بسبب غزو لحم الدواجن المجلد المستورد من البرازيل بطريقة شرعية وغير شرعية والمهّرب من سوريا .

من المفيد أن نذكر ها هنا إلى أن في دول أوروبا الغربية تدنت حصة الفرد من الإنتاج المحلي إلى 16,5 كيلو من معّدل إستهلاك 33 كيلو أي أن أوروبا الغربية تنتج حاليـــاً 50 % من إستهــــلاكها و 50 % يتم إستيراده من البرازيل وبعض دول أوروبا الشرقية . وقد تدخل أوكرانيا على خط تزويد أوروبا في وقت قريب .

سياسات الحماية والدعم مقابل سياسة الإنفتاح أن المنعطف الأساسي في رسم السياسة الإقتصادية لأي بلد من بلدان العالم يجب أن ينبع من مصلحة المواطنين ، كل المواطنين سعياً لخدمتهم . أن القطاع الخاص يستطيع أن يأخذ على عاتقه أكثر المسؤوليات تعقيداً شريطة أن يكون طريقه ممهداً خال من العراقيل وأن يكافأ مكافأة مادية عادلة على مجهوداته . فإذا لم تحيك الحكومات اللبنانية قراراتها وقوانينها مستندة إلى مصلحة كل شرائح مجتمعاتها بالتساوي ، بمن فيهم المتعاطين بالزراعة ، فإنه من الصعب أن يتحقق التطور . ينطبق هذا القول على العاملين بالدواجن .

لقد فهمت الولايات المتحدة وأوربا هذا المبدأ منذ زمن طويل . فلجؤا إلى حماية ودعم مزارعيهم لإبقائهم عاملين بحماس وسرور لتأمين غايات وحاجات أوطانهم من الأمن الغذائي والإبداع وتحسين الإنتاجية و سلامة الغذاء وتخفيف الكلفة وحماية البيئية . لقد عهدت الولايات المتحدة وأوروبا مؤخراً إلى ذات المزارعين مهمة إنتاج الوقود المتجدد من خلال التمويل والحوافـز المادية . ففي الولايات الأمريكية هنالك " قانون الزراعة " الذي يعاد النظر به مرة كل خمس سنوات من أجل التأكد من المعاملة العادلة والدخل اللازم لهؤلاء المزارعيين بينما هم يسعون للوصول إلى الأهداف المرسومة . لقد فاقت المساعدات والدعم السنوي في الولايات المتحدة بفئاتها المختلفة للمزارعين مبلغ الـ180 مليار دولار . أما في الإتحاد الأوربي فهنالك ما يسمى "بالسياسة الزراعية العامة " ، التي أنشئت منذ أربعين عاماً والتي تعاد صياغتها وزيادة المبالغ المخصصة لها من حين إلى آخر إلى أن فاقت الخمسين مليار يورو سنوياً .

فكلا الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي يقفان موقفاً متصلباً من دعم مزارعيهم مبررين هذه السياسة بالأسباب التالية :

  • تأكيد تأمين تدفق ثابت من الموارد الغذائية السليمة بأسعار طبيعية للمواطنين .
  • توفر مستوى معيشة لائق للمزارعين بينما هم ساعون لتحديث وتطوير منشآتهم .
  • التأكد من أن الزراعة تعم كل المناطق الريفية .
  • التأكد من أن البيئة محافظ عليها .
  • توفير عناية صحية أفضل والرفق الصحيح بالثروة الحيوانية .
  • منع هجر الأرض ومنع تجريد التربية بالمناطق الريفية .
  • منع البطالة وتدني مستوى المعيشة في المناطق الريفية .

بالرغم من ضخامته ، فإن الدعم الزراعي في الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي لا يتعدى 0,5% من الدخل القومي . المشكلة تقع في الدول النامية والفقيرة حيث الدخل القومي منخفض والقدرة على الدعم معدومة . من هنا فإنني لا أرى مبرراً معقولاً يدفع بلبنان للإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية إلا بشروطه هو . لا يمكنني لوم الدول المتطورة على سياسة الدعم التي تجذب الإبداع والإنتاجية والكفاءة والتقدم التكنولوجي . لكن يمكنني أن ألوم الدول النامية ، ومن ضمنها لبنان ، لإندفاعها للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية ولإندفاعها لتوقيع إتفاقيات تبادل حر ثنائية دون أخذ مصالح مزارعيها بالإعتبار . أنها ليست دعوة لغلق الحدود ولكنها رسالة كي تطبق معظم الدول النامية الخطوات الحمائية المتوفرة وكي يطبق بعضها القليل القادر خطوات الدعم تماماً كما تفعل الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي . ومن المؤسف حقـّاً أن تعامي الحكومات اللبنانية عن إعتبارات عديدة مهمة في رسم السياسات الإقتصادية أدت و تؤدي إلى تردي الأوضاع الإقتصادية وإلى هجرة الرساميل والكفاءات .

فالإنماء المتوازن هو سمة الدول المتقدمة . فها هي الولايات المتحدة دولة صناعية بإمتياز لا تهمل الزراعة مثلاً . فقد أضحت بدعمها المباشر وغير المباشر للزراعة أكبر مصدر للذرة وفول الصويا في العالم وهي مكتفية ذاتياً بإنتاج القطن والأرز والدواجن والألبان واللحوم الحمراء . وها هو الإتحاد الأوربي يدعم الزراعة لإبقاء مزارعي الأبقار والقمح والزيتون وغيرها في أرضهم . وها هي كندا وبالرغم من إنضوائها تحت منظمة التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية " نافتا" تضع رسموماً جمركية على مستوردتها من الألبان وألأجبان ولحوم الدواجن والأبقار تفوق 200 % من أيّ دولة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها . وها هي اليابان تمنع دخــــول اللحوم الحمــراء و الأرز من الولايات المتحدة أو غيرها بالرغم من إنضمامها لمنظمة التجارة العالمية .

الجدير ذكره أن إتفاقيات تبادل المنتجات الزراعية شاملة المنتجات الغذائية في منظمة التجارة العالمية لم تبصر النور حتى يومنا هذا بالرغم من مرور خمسين عاماً على تأسيس منظمة الجات ، التي تحولت إلى منظمة التجارة العالمية ، إحدى منظمات الأمم المتحدة . سبب ذلك يعود في الأصل إلى ممانعة الدول الصناعية وتشبثها بدعم الزراعة في بلدانها .

أما لماذا إستثنت وتستثني الدول الصناعية الزراعة من إتفاقات التبادل التجاري الحر فلإعتبارات أهمها المحافظة على الإنماء المتوازن بين قطاعات الإقتصاد المختلفة في بلدانها . فهي ترى وتسعى إلى الأمن الغذائي والإعتماد على النفس في توفير غذائها وهي ترى وتسعي إلى المحافظة على البيئة وعلى البنى الإجتماعية المتوازنة فلا تقبل بالتضحية بالمزارعين وتريدهم مواطنين ميسورين محترمين يكاد لا يختلف مستوى معيشتهم عن أي مواطن آخر وخاصة في حصولهم على ذات مستوى التعليم والإستشفاء والغذاء والشيخوخة كأي مواطن في الخدمات أو الوظائف العامة أو في السياحة وغيرها .

أما تركيا فهي بلد يدعم تصدير كل منتجاته دعماً كبيراً بطرق مباشرة وغير مباشرة . وعامل الدعم هذا كان وما زال السبب الأساسي لقدرة تركيا زيادة حجم صادرتها . والدول العربية الخليجية توفر الأرض والطاقة الكهربائية وكذلك المحروقات بأسعار تشجيعية للغاية . كما أنها تستورد كل الخامات الأخرى دون رسوم وتستخدم القوى البشرية الماهرة منها وغير الماهرة من دول أخرى وبذلك تنتج منتجات مختلفة على رأسها منتجات غذائية بأسعار منافسة . والصين المعروف بتدني كلفة إنتاجه وقدرته الفائقة على المنافسة فهو أيضاً لجأ إلى دعم تصدير كل منتجاته الصناعية حيث وصل إلى 16 % .

أما المملكة العربية السعودية فهي تدعم الإنتاج الزراعي والصناعي بأشكال مختلفة على رأسها سعر الطاقة المنخفض وسعر المحروقات المنخفض والأرض المجانية والقروض دون فائدة لإثني عشرة سنة والدعم المباشر لكلفة الإنتاج كالدعم لمادتي الذرة والصويا بخمسماية ريال عن كل طن مستورد . وفوق هذا وذاك تضع رسوماً جمركية على منتجات عديدة كالدواجن مثلاً بمبلغ ألف ريال على كل طن من الدواجن المستوردة المجلدة . وتمنع ومنذ 1986 دخول بيض المائدة والصيصان عمر يوم وبيض التفريخ من دول طوق إسرائيل وهي مصر والأردن وسوريا ولبنان دون أي سبب واضح غير الحماية للمزارعيين السعوديين .

وهكذا نرى أن قدرة عديد من الدول المنافسة للتصدير تعود أصلاً للدعم المباشر أو غير المباشر أو لتوفير عناصر الإنتاج بأكلاف متدنية منتجة أصلاً في بلدها ولا يعود إلى عبقرية الناس في تلك الدول او لتفوقهم الفكري أو العلمي على غيرهم .

من هنا على لبنان إعتماد مبدأ حرية التبادل التجاري بحسب مصلحته مع كل دولة على حدة وحرية إنسياب المنتجات بشكل حر غير مقيد بإتفاقات ملزمة معيقة لنموه الإقتصادي . فالفرق كبير بين حرية التبادل التجاري وإتفاقيات التبادل التجاري الحر بالنسبة إلى لبنان ومكونات إقتصاده وحالة عجز ميزانياته العامة وإرتفاع كلفة إنتاجه وبالتالي عدم قدرته على التصدير .

فالحماية الجمركية مشروعة في منظمة التجارة الدولية وهي تترك مستواها للتفاوض مع الدول الأعضاء عشية دخولها في المنظمة . أن تشبث لبنان بجمارك مرتفعة لمنتجات صناعية وزراعية محددة لن يثير حفظية الدول الشركاء في المنظمة خاصة وأن لبنان بتكاليف إنتاجه المرتفعة لا يشكل عنصر تهديد لتصدير منتجاته لهذه الدول .

إمكانية تطوير إنتاج لحم الدواجن في لبنان إن تطور إنتاج لحم الدواجن يعتمد سياسة الحكومات المتعاقبة تجاه حماية الإنتاج المحلي من المستورد من دول كلفة إنتاجها نصف ما هو عليه كالبرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة الأمريكية وتايلند وأوكرانيا . إذا ما راجعنا إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة نرى أن واردات أكبر 13 دولة عربية قد بلغت 465 ألف طن خلال عام 2000 وإرتفعت إلى 770 ألف طن خلال عام 2005 أي بزيادة 66 % خلال خمس سنوات ثم إلى مليون و 638 ألف طن في 2010 أي بزيادة 213 % خلال الخمس سنوات الأخيرة . هذا بالرغم من أن معظم هذه الدول كانت وما زالت تفرض رسوماً جمركية على الدجاج المستورد يتراوح بين 10 و 30 % . هذا يعني بأن الدول العربية ، ومنها لبنان ، مهيئة لإستيعاب الدجاج المستورد المجمد وبأن زيادة إستيراده سوف تعتمد على تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة عليه وبالتالي سوف يكون الإستيراد هذا على حساب الإنتاج المحلي . في ظل هذا الواقع يبدو لي أن تطور إنتاج لحم الدواجن في لبنان يعتمد على ثلاثة إجراءات :

  • الإبقاء على سقف الحماية الجمركية الحالية للمستورد منه ومنع التهريب الشرعي وغير الشرعي .
  • تخفيض كلفة الإنتاج 30% على الأقل عّما هو عليه .
  • الترويج للإقبال على لحم الدواجن الطازج .

أولاً : الرسم الجمركي الحالي المعمول به هو 30% مع حد أدنى للإستيفاء الجمركي يساوي ألف ليرة لبنانية عن كل كيلو فروج كامل وألفي ليرة لبنانية عن كل كيلو من مقطعـــــات الفـــروج ولحــــم الفـــروج . لا شك أن هذا المستوى من الحماية الجمركية هو مستوى كافٍ لحماية الإنتاج الوطني . لكن المشكلة تكمن في عاملين :

الأول هو حجم تهريب لحم صدر الفروج من سوريا . إن كلفة إنتاج الفروج في سوريا لا تختلف كثيراً عنه في لبنان والفارق لا يبرر كلفة تهريبه . كما أن لبنان قد وقـّع إتفاقية تبادل تجاري حرّ مع سوريا منذ 2002 إضافة إلى إنضمام لبنان إلى إتفاقية المنطقة العربية الحرة تحت مظلة جامعة الدول العربية والتي ألغت كافة الرسوم الجمركية على كل المنتجات من منشأ عربي تزيد مكونات المنتجات من المنشأ عن 40% . لكن ومنذ عام 1998أكتشف التجار بأن سعر لحم صدر الدجاج ( فيليه) في لبنان يفوق سعره في سوريا بمقدار 50 % لأن المستهلك السوري يرغب لحم الفخذ والجوانح ويدفع ثمناً لها أعلى من سعرها في لبنان . وعليه إستغل المهربون هذه الظاهرة وأخذوا يهربوا لحم صدر الدجاج إلى لبنان بكميات وصلت إلى 48 ألف طن عام 2008 ثم تدنت خلال 2009 و 2010بسبب مزاحمة صدر لحم الدجاج البرازيلي الوارد أما مباشرة أو عبر الإمارات العربية المتحدة والأردن .

أما لماذا يتم تهريب لحم الدجاج من سوريا بدل دخوله بصورة شرعية دون رسوم جمركية فهذا يعود إلى التهّرب من إخضاعه للفحص المخبري من قبل وزارة الصحة وإكتشاف مستوى تلوثه البكتيري العالي كون 95 % من المسالخ في سوريا هي مسالخ يدوية لا ترقى إلى أدنى إشتراطات الأمن الحيوي . والعامل الثاني هو دخول لحم الدواجن البرازيلي عبر الإمارات العربية المتحدة والأردن حيث يتم تبديل غطاء العبوات من غطاء برازيلي إلى غطاء مطبوع عليه بأن هذا اللحم هو إنتاج أحد المجازر في الإمارات أو الأردن . وهو يحصل بسهولة على شهادة منشأ عربية وبالتالي يدخل إلى لبنان دون رسوم جمركية عملاً بإتفاقية المنطقة الحرة العربية .

إن كل المطالبات التي حصلت منذ عام 1998 حتى الآن لم تلق آذانا صاغية لدى المسؤولين من رؤساء وزارات ووزراء مالية ووزراء إقتصاد والمجلس الأعلى للجمارك . بل ورد لي شخصياً كتاب وزير إقتصاد أسبق يبارك تهريب لحم الدواجن من سوريا لأنه يخفف سعره للمستهلك اللبناني دون أي إعتبار للنوعية وسلامة هذا اللحم .

ثانيــاً : من الممكن تخفيض كلفة الإنتاج في لبنان عن طريق تحديث المزارع القائمة وتحويل معظمها إلى بيوت مقفلة معزولة مع تهوئة إصطناعية بحيث يمكن رفع كثافة الطيــــــور من 12 طائر بالمتر المربع إلى 20 طائر بالمتر المربع وكذلك التحكم بالتهوئة والتدفئة والتبريد ومع إعتماد إجراءات الأمن الحيوي بصورة متشددة وإعتماد العمر الواحد في المزرعة الواحدة في آن واحد وإعتماد العلف المحبب والتحصين السليم . كل هذه التحسينات تؤدي إلى تخفيف النفوق إلى ما دون 5 % وإلى تخفيض معامل تحويل العلف إلى وزن حـــي دون 1,7 . وهذيــــن العامليـــن يخفضان كلفة الإنتاج 25 % عما هو عليه حالياً . أضف إلى ذلك إمكانية تحســيـــن تربيـــة أمات التسمين إلى درجة يصل معها إنتاج الأم الواحدة إلى 135 صوص الأمر الذي يخفف أيضاً من كلفة إنتاج الفروج 5 % إضافية .

ثالثــاً : على المنتجين وخاصة كبارهم إعتماد برامج دعائية تروّج للإقبـــال على إستهــلاك الإنتاج الطازج الوطني وإبراز حسناته مقابل المجلد المستورد أو المهـــرب غيـــر الصحــي .

إن المستهلك اللبنــاني مهّيأ ومعتاد على تفضيل الطـازج من لحوم حمــراء وأســماك بالرغــم مـــن الفارق الكبير بالسعر بيـــن المجلد والطازج . لذلك على منتجـي لحــوم الدواجـــن أن يستفــيدوا من هذه الظاهرة ويروّجوا لها . حبذا لو كان في لبنان نقابة تجمعهم وقياديين لهــا يحسنوا إدارتها ويتمتعون بالعـــلم والمعرفــــة والهمة والنشاط ليتبنوا هذا الفكر ويطالبــوا الدولة بالقيام بواجبها تجاه هذه الصناعة الهامة .

Add your comment Here

Your email address will not be published.