الجريمة التي لا تُغتفـر

July 28, 2011 Musa Freiji Articles

مرّ على لبنان حرب أهليّة دامت 15 عاماً أتت على معظم القطاعات الإنتاجية في معظم المناطق اللبنانية.

ما إن تمّ توقيع إتفاقية الطائف وعاد الهدوء الأمني عام 1990 حتى إنبرى العديد من أصحاب المشاريع الصناعيّة والزراعيّة الى دراسة السبل لإعادة إحياء صناعاتهم وزراعاتهم على طرق حديثة خاصةً وقد فاتهم قطار التغيير والتحديث لعقدين من الزمن تقريباً.

بينما هم منهمكون في إعداد دراسة العودة وتمويل المنشآت والآليات والمعدات اللازمة وتهيئة الكوادر العاملة وتدريبها، كانت الحكومات المتعاقبة منهمكة في تبنّي سياسة إقتصاديّة إنفتاحيّة على العالم الخارجي دون أن تُعلن للملأ عن هذه السياسة المبيّتة خشية أن تواجه إعتراضات عليها من قبل أصحاب المشاريع الإنتاجيّة. فراحت تمرّر من حين إلى آخر قوانين تخفّّض بموجبها الرسوم الجمركية عَلى العديد مِن السلع الصناعية والغذائية. كما راحت توقع إتفاقيات التبادل التجاري الحر مع عديد مِن الدول الواحدة تلو الأخرى. وشرعت في التعجيل بتوقيع إتفاقية اليورو متوسطية وإلزام لبنان بموجبها بتخفيض الرسوم الجمركية على معظم السلع المستوردة. أمّا إتفاقية المنطقة الحرة العربية التي سعت إليها جامعة الدول العربية فكان لبنان سبّاقًا بين أعضائِها لتنفيذ ما تبقى من تخفيضات جمركية إلى درجة إلغائِها إلغاءً تامًا بحلول 2004 للمنتجات ذات المنشأ العربي. وأخيرًا حرصت الحكومات المتعاقبة على السعي للإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية منذ 1996 فسمحت لفريق من الحقوقيين اللبنانيين بالعمل تحت إدارة وإشراف وتوجيه وتمويل الوكالَة الأميركية USAID لوضع القوانيين الواجبة وتعديل بعض القوانين المعمول بها كي تتلاءم وشروط الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية التابعة للأمم المتحدة. ومع أنّ فريق العمل هذا قد أتمّ وضع وتحديث معظم القوانين المطلوبة إلاّ أنّه، وبعد مرور 15 سنة، لم ينتهِ من مهمّته كما لم تتوصّل وزارة الإقتصاد من تخفيض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة إلى الدرجة التي ترضي الدول الأعضاء بالمنظمة كي توافق الأخيرة وبالإجماع على إنضمام لبنان. ومن المسلّم به بأن الحكومتين الأخيرتين بعد إتفاقية الدوحة لم تسهّلا مهمة إنهاء القوانين المطلوبة من لبنان بموجب شروط المنظمة وإلاّ لكان لبنان إنضمّ إلى المنظمة منذ خمس سنوات وقبل بكافة شروط الدول الأعضاء فيها. وهي شروط أقل ما يقال عنها أنها تخضيعية تجعل من لبنان بلدًا مستهلكًا غير منتج. على ضوء هذا الواقع الأليم شاهدنا الوقائع التالية خلال الفترة من 1993 إلى 2010 أي خلال 17 سنة:

1- تجرأ بعض أصحاب المصانع والمشاريع الزراعية إلى العودة للإنتاج عن طريق إعادة تشغيل مصانعهم أو زراعاتهم بعد تحديث متفاوت. من هؤلاء من صمد صمودًا خجولاً ومنهم من تراجع أمام منافسة المنتجات المستوردة فأقفل وتحسّر وندبَ حظّه .

2- تجرأ عدد من المغتربين اللبنانيين الذين كانوا يتوقون للعودة بعد إنتظار ربع قرن عملوا خلالها في دنيا الإغتراب ونجحوا وكوّنوا ثروات أرادوا نقلها ونقل خبراتهم إلى وطنهم الأّم. تحدّوا وأسّسوا مصانع ومشاريع وذاقوا الأمرّين من بطء المعاملات والتراخيص ودفع الرشاوى دون هوادة. مع كلّ هذا لم يصمُد منهم إلاّ القليل لأنهم قاوموا التحديات ويئسوا فأقفلوا عائدين من حيث جاءوا لاعنين المسؤولين وسياساتهم وكافرين بالوطن الذي أحبّوا.

3- نتيجةً لسياسة الإنفتاح المفرط أقفلت عديد من الصناعات كالأحذية والملابس والسيراميك والزجاج والأدوية والكيماويات وغيرها وتوقفت زراعة العدس والحمص والفول والشمندر السكري والشعير والذرة وغيرها وأهملت زراعات عديدة أخرى كالتفاح والزيتون.

4- صمَدت زراعات أو صناعات محدّدة بفضل الإبقاء على سياسة حمايتها وإلاّ لكانت إنقرضت هي إيضاً. منها صناعة الإسمنت وزراعة التبغ وزراعة القمح.

5- فشلت المؤسسة اللبنانية لتشجيع الأستثمار(إيدال) بتشجيع الإستثمار. وهي وبحسب تصريح رئيس مجلس إدارتها لا تتمتع باعتبارها النافذة الوحيدة للحصول على تراخيص الإستثمار إلاّ بحدود 30% فقط أي أنها ظلّت معطّلَة منذ تأسيسها في 1993. لذلك أُسنِدت إليها مهمة إدارة دعم تصدير بعض المنتجات الزراعية. وهذه السياسة في رأيي لا تعدو كونها سياسة لا تغني ولا تشفي وهي تفريط بالأموال التي تدفع لدعم التصدير أكثر منها دعماً يوطّد إستقرار إنتاج هذه المنتجات المدعوم تصديرها.

6- صدر قانون حماية الإنتاج الوطن تمامًا حسبما نصّه فريق العمل لإعداد لبنان للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية. أُعدّ هذا القانون بعناية فائقة خصيصًا لعرقلة حماية الإنتاج الوطني حيث يستحيل على وزير الإقتصاد بموجبه الوصول إلى إكمال أي ملف يتعلّق بحماية إنتاج أي منتج لبناني من منافسة مثيلة من المستورد.

7- صدر قانون حماية المستهلك ليعتبر أنّ كل مُنتِج لبناني هو غشّاش بطبيعته يجب مراقبته والإجهاز عليه قبل التحقق من مخالفته وعليه أن يُثبت براءته بعد إدانته وتحويلها إلى النيابة العامة بدلاً من التعاون معه وإرشاده وإنذاره قبل الوصول إلى إدانته ولا تتوقف المخالفة عند الإدانة بل تتعداها إلى الغرامة المالية المفرطة والسجن. بينما في المقابل يتنصل التاجر المستورد من أية مسؤولية عن أي مخالفة في مواصفات المنتجات المستوردة ويضع اللـّوم على الجهة المصنّعة في بلد المصدر فتأتي أقصى عقوبة هي إتلاف البضاعة المستوردة المخالفة للمواصفات أو عدم إدخالها الى لبنان. هكذا قانون جائر لا تتساوى فيه العقوبات على المنتج المحلّي والتاجر المُستورد يُخفّض من عزيمة المنتجين اللبنانيين ويجعلهم يتردّدون في الإنتاج في لبنان.

8- لم تكن الأحزاب والهيئات السياسيّة تولي السياسة الإقتصادية أية إعتبار جدّي لأنّها كانت دائماً منشغلة في الشأن السياسي الضاغط. فهذه جميعها ظلّت تذكر في بياناتها الإنتخابيّة إهتمامها بالشأن الإقتصادي والإجتماعي بطريقة شكليّة غير جدّيّة ولا دقيقة.

9- لو عُدنا للبيانات الوزاريّة لكل الوزارات منذ 1990 حتى يومنا هذا لرأيناها تمرّ على الشأن الإقتصادي مرور الكرام وتُعلن "دعمها" و "إيلاءها" هذا الموضوع الإهتمام الذي يستحق. فكانت الوعود فارغة من مضمونها لا تتطرّق الى أيّة تفاصيل تبيّن فيها كيفيّة "الدعم" أو "الإهتمام" .

بناءً لكل ما تقدّم نرى أنّ الحكومات المتعاقبة منذ 1990 تعمّدت ترك القطاعات الإنتاجيّة تتآكل شيئاً فشيئاً قناعةً منها بأنّ: ‌

أ. كلفة الإنتاج في لبنان هي مرتفعة ومن الأجدى إستيراد الأرخص ثمناً تخفيفاً لكلفة معيشة المكلّف اللبناني. ‌ب. لا بأس بأن يعتمد الاقتصاد اللبناني على السياحة والخدمات المصرفيّة والطبيّة والقانونيّة والدراسات الهندسيّة والترانزيت. ‌ج. لا بأس في هجرة الأدمغة اللبنانية إذا لم تتمكن القطاعات غير الإنتاجيّة من استيعابها. فهذه سوف تشكل مصدراً من مصادر الدخل غير المنظور. ‌د. معظم دول العالم ذاهبة باتجاه تحرير التجارة وتخفيف القيود الجمركيّة وغير الجمركيّة فكيف على لبنان السير عكس التيّار. لقد خفي على الحكومات المتعاقبة وفات المسؤولون من رؤساء وزارات ووزراء مالية واقتصاد لدى اعتماد السياسة الاقتصادية المذكورة الكثير والكثير من التعقل والإدراك للمصلحة الاقتصادية العليا للبنان. من هذه الاعتبارات الأساسية ما يلي:

أولاً: لم يعتبروا أن مصلحة المواطن اللبناني لأي فئة اجتماعية أو اقتصادية انتمى تأتي أولاً وبأن أية اتفاقية تجارية مع أي بلد في العالم يجب أن تراعي مصلحة اللبنانيين وليس مصلحة الدولة الأخرى.

ثانياً: ليس سراً أو عجباً أن تكون كلفة الإنتاج في لبنان مرتفعة بسبـب صغـر مساحته وقلـة سكانه وانعدام وجود الثروات الطبيعية كالطاقة ولا حتى الأمطار معظم أيام السنة. لكنّ ذلك يجب ألاّ يؤدي بالمسؤولين إلى الاستسلام وعدم تمكين المواطنين من العمل المنتج والذهاب بعيداً في تحدّيهم وقهرهم ومواجهتهم للمنافسة غير المتكافئة.

ثالثاً: معظم دول العالم المتقدمة إقتصادياً تسعى لتنويع مصادر دخلها أي لتنويع إقتصادها. وهذا ما أصرّت الحكومات المتعاقبة على الابتعاد عنه. كان عليها أن تجد السبل التي تساعد القطاعات الإنتاجية صناعيةً كانت أم زراعية أو تزدهر لتكون سنداً للسياحة والخدمات حتى إذا ما حصل ما يعكر مسيرة السياحة والخدمات يبقى مصدر الإنتاج ولو لتأمين جزء من الحاجة المحلية متوفراً ومساعداً لصمود الاقتصاد.

رابعاً : لم يقـدّر المسؤولون أهمية تعميم النشاطات الاقتصادية على كافة المناطق اللبنانية وبالتالي لم تراع مصلحة ما يزيد عن مليون ونصف المليون من اللبنانيين الذين يعيشون في البقاع والجنوب والشمال والذين يقتصر دخلهم على الزراعة والصناعات الغذائية. ولولا اعتمادهم على إلحاق شبابهم بالجيش والقوى الأمنية لكانوا يعانون من ضائقة معيشية صعبة للغاية. ثم ماذا يفسر نزوح أعداد كبيرة منهم إلى العاصمة وترك وإهمال أراضيهم وقراهم إلاّ ندرة فرص العمل فيها نتيجة سياسة الحكومات الاقتصادية قصيرة النظر حيالهم.

خامساً : تقدر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة بأن عدد سكان العالم سيـزداد 50% بحلول عام 2050 مقارنةً مع مطلع القرن. كما تقدّر بأن 1,5 مليـار إنســان الذيـن يحصلون على معدل دولار واحد يومياً يتضاعف دخلهم الأمر الذي يتطلـب مضاعفــة الغذاء خلال هذه السنوات الخمسين. وبعد دراسة متأنية للمساحات القابـلة للزراعـة فـي العالم تبيّن بأن أسعار المواد الغذائية ستواصل إرتفاعها وفي الغالب سوف تلجأ بعض الدول المصدّرة للمواد الغذائية أن تقنّن أو حتى تمنع تصدير كل أو بعض منتجاتـهـا لصالـح استقرار توفيرها وأسعارها لمستهلكيها. هذا يعنى أن على كل دول العالم أن تجهّـز ذاتها  لإنتاج ما يمكن إنتاجه من غذاء منعاً لمواجهة الغلاء الكبيـر أو حتى استحالة الحصـول عليه. فما هي خطة الحكومات اللبنانية لمواجهة هذا الواقع غير الهروب من مواجهة هكذا سيناريوهات؟

سادساً : نادى المسؤولون بأهمية الاستثمار بالقطاعات المختلفة وبأن الاستثمار يوفر فرص العمل. لكن النداءات لم تقترن بأية خطوات محفزة للاستثمار. بالنسبة للقطاعـات الإنتاجيــة لا بــدّ لأي مستثمر أن يتحقق من العائد المجدي لإستثماره ناهيك عن ارتياحه للوضـع الأمنــي والقضائي ويُسر الحصول على التراخيص. فكيف له أن يستثمـر في لبنـان حينما يــرى الحكومات تفتح الأبواب لدخول البضائع المنتجة في بلدان العالم وتصـل أرخص من كلفة إنتاجه لأسباب قد لا تكون لها علاقة بالكلفة الحقيقية للإنتاج في بلد المصدر بل قلة سعرها ناتج عن دعم إنتاجها أو دعم تصديرها؟ لهذا السبب وحــده أحجم المستثمرون من الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وبالتالي حرموا طالبي العمل من إيجاد عمل في لبنان.

سابعاً : بالرغم من انضمامها لمنظمة التجارة العالمية فإن معظم دول العالم وعلى رأسها الدول الصناعية تعتمد سياسة حماية منتجاتها وخاصة الغذائية منها إلى درجة أنها تمنّعت حتى يومنا هذا من توقيع اتفاقيات تبادل المنتجات الزراعية والغذائية والتي تطالب بها الـدول النامية. وكم رأينا ونرى العراقيل والحجج الواهية في السماح بدخول الصادرات اللبنانية وخاصة الغذائية منها بحجة سقف المواصفات القياسية الذي يرتفع من حين لآخر. ثامناً: يستحيل على لبنان أن يرتفع تصنيفه من دولة في طور النمو إلى دولة نامية ثم إلــى دولـة متطـورة اقتصادياً دون إشراك القطاعات الإنتاجية فـي الاقتصاد على نطاق واسـع. ومـا تسمية الدول المتطوّرة اقتصادياً على أنها دول صناعية إلاّ لأنّ قطاعاتها الإنتاجية صناعية كانت أم زراعية هي قطاعات متطورة تتقدم بخطى حقيقية عن طريق الأبحاث والإبـداع والتطور ولا تقف عند حد الإكتفاء الذاتي بل تتعداه إلى التصدير.

تاسعاً : يستحيل على لبنان أن يتقدم اقتصادياً وهو يخسر طليعة شبابه المتعلم والمثقف ليهاجــر ويعمل لصالح دول أخرى في أرجاء العالم ويساهم في تطوير اقتصاد تلك الدول. فالتقدم المنشود يطلب الأجيال الشابة مثلما يتطلّب رأس المال والمناخ الاستثماري المؤاتي ومنها التشريعات المحفزة للاستثمار.

عاشراً : راقبت الحكومات المتعاقبة العجز التجاري طيلة عقدين وهي على بينـة من أن نسبــة الصادرات للواردات تتراجع سنة بعد سنة وهي لم تتعدى عتبة الـ 25 % الأمـر الـذي يتطلب علاجاً منذ زمن. لكن ظلت تراقب هذا الوضع دون اكتراث. وكم من مرّة لفتنـا نظر المسؤولين عن الشأن الاقتصادي إلى أهمية اعتماد الحماية الجمركية على السلع المنتجة أو التي يمكن أن تنتج في لبنان تشجيعاً للمستثمرين في الاستثمار في إنتـاج الصنـاعـات الزراعات المحمية لتحل ولو جزئياً محل مثيلاتها من المستورد. لكنّ الجـواب كان بـأن سياسة الحماية الجمركية هي من المحرّمات. وحين نلفت انتباههم على أن لبنان يعتـمـد سياسة الحماية وحتى الاحتكار ونسوق لهم أمثلة كالنقابات الملزمة وطيران الشرق الأوسط ومصانع الأسمنت والوكالات الحصرية لا نسمع أي جواب.

حادي عشر : أي مشروع إنتاجي جدي وسليم يجب أن يبدأ بدراسة جـدواه الفنيـة والاقتصاديـة ثـم عشر يدخل مراحل التنفيذ من البنية التحتية إلى التمويل إلى إيجاد الكوادر البشرية إلى تدريبها إلى البدء بالإنتاج والمُضي في تحسين النوعية وتخفيف الهدر والكلفة إلى المنافسة إلى إيجاد الأسواق إلى الحصول على شهادات الكفاءة الإنتاجية والسلامة. كل هذه الأمور تتطلب استقراراً في السياسة الاقتصادية وعدم مفاجأة المستثمر بالقوانين أو القرارات المغايرة التي بني عليها دراسته. كما تتطلب وقتاً ليس بقصير.

عشرون سنة من الخطأ الفادح في إدارة الشأن الاقتصــادي اللبناني تـُـعـدّ جريمة لا تغتفـر اقترفتها الحكومات المتعاقبة منذ 1990. ذلك لأن خسارة هذا الردح من الزمن بعد خسارة 15 سنة من الحرب الأهلية هي خسارة جسيمة لا تعوّض.

Add your comment Here

Your email address will not be published.